الاثنين، 7 ديسمبر 2015

دور الاستشراق في موقف الغرب من الإسلام وحضارته

 دور الاستشراق في موقف الغرب من الإسلام وحضارته
الخميس  :  12/11/2015
الكاتب  :  د. خالد حربي: مصر

تشغل الحضارة الإسلامية مكاناً مرموقاً بين حضارات العالم المختلفة، فلا تؤرخ الحضارة الإنسانية إلا بها، ولا يمكن لتاريخ العلم أن يكتمل بناؤه بعيداً عن أسس هذه الحضارة المجيدة.
ومن هنا شغل تراث الحضارة الإسلامية اهتمام علماء الغرب ومفكريه منذ فجر نهضتهم الحديثة، التي قامت أصلاً على مبادئ ومقومات الحضارة العربية الإسلامية، بدءاً من القرن العاشر الميلادي ولمدة قرنين من الزمان فيما عرف تاريخياً بحركة النقل والترجمة من العربية إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الغربية.
وفي أثناء هذا الجو العلمي النشط ظهر علم الاستشراق الذي يعتني بدراسة الغرب للشرق بكل مكوناته ومقوماته، وبمرور الزمن تعددت وتغيرت اتجاهات المستشرقين من علمية محايدة إلى عملية موجهة توجيهاً أيديولوجياً معيناً يخدم أغراضاً بعينها؛ اقتصادية أو عسكرية أو استعمارية أو دينية، وتلك هي أغراض الاستشراق الرئيسة الكبرى، وإن تظاهر بأغراض وأهداف أخرى تكتسي بالحياد العلمي.
لكن هل استطاع الغرب أن ينفذ مخططاته التي أرادها من الشرق وحضارته عن طريق حركة الاستشراق (المغلفة) بالاتجاه العلمي؟ وهل تمسك المستشرقون بقواعد البحث العلمي النزيه في رسم صورة أمينة لهذا الشرق الساحر في نظرهم وتقديمها للغرب، أم أنهم خالفوا هذه القواعد وقدموا للغرب ما أراده من إرسالهم إلى الشرق؟ ذلك ما سيحاول هذا المقال الإجابة عنه. 
جملة القول إن الغرب الأوروبي قد استطاع بكل ما وفره من إمكانيات لحركة الاستشراق بدءاً من القرن العاشر الميلادي أن ينقل إليه النموذج الحضاري الشرقي في فترة كان ظلام الجهل الدامس يخيّم على كل أرجاء العالم الغربي.
 وبمرور الوقت أصبح جلياً أن الاستشراق عني عناية كبرى بكل ما هو شرقي وإسلامي وعربي على حدة، وأنه فعل ذلك لأسباب ودوافع عديدة، فعني بالإسلام والقرآن والحديث وشخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) والفقه الإسلامي والتاريخ الإسلامي والعربي والفلسفة الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية وعلوم المسلمين الطبيعية والفنون الإسلامية والمجتمع الإسلامي والعلوم الإنسانية واللغة العربية والأدب العربي الإسلامي، فألف آلافاً مؤلفة من الكتب، وأصدر عشرات من المجلات، ونشر عشرات الآلاف من المقالات، كما قام بترجمة عدد هائل من الكتب العربية إلى اللغات المختلفة وعني بتحقيقها، وكشف عن مخطوطاتها، ونظّم فهارسها، حتى يمكن القول بأن الفكر العربي الإسلامي أخذ يزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وأهميةً سنة بعد سنة، وأصالة جيلاً بعد جيل، وتلك حسنة من أهم حسنات الاستشراق في مقابل عواقبه الوخيمة. ويمكن التعرف على الملامح العامة لعناية الاستشراق بكل المجالات السابقة فيما يلي:
 أما عنايته بالإسلام فقد ركزها على دراسة خصائصه العامة، ظهوره وانتشاره ونظامه، واتجاهه الأيديولوجي وتطبيقه الواقعي ومفهومه الكوني والأخلاقي.. وغيرها من المسائل التي ترتبط به. وجاءت عنايته بالقرآن عن طريق البحث في تاريخ ترتيبه ووحيه وجمعه وأصالته وتفسيره وترجمته وأسلوبه واعتباره مصدراً رئيساً للشريعة ومعاملاتها.
 وأما الحديث النبوي فقد ركز الاستشراق جهوده على دراسة تاريخه وجمعه وتدوينه وأهميته ورواته ومنزلته وأسلوبه واعتباره مصدراً للشريعة ومعاملاتها، ومذاهب علماء الإسلام في النقد الداخلي والخارجي له.
 وأما عنايته بالرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد اهتم بكل ما يتصل بشخصيته وحياته ونبوته وسياسته وإنسانيته وتشريعاته ودعوته وجهاده وزوجاته ومكانته التاريخية والإنسانية.
 واعتنى الاستشراق بالفقه الإسلامي بدراسة نشأته ومصادره ومدارسه ومذاهبه وتطوره ومقارنته وعلاقته بالعقيدة والتصوف والحديث. واعتنى بالعرب وتاريخهم بدراسة بلادهم وقبائلهم وظهور الإسلام ودوره التاريخي ودور العرب في الحضارة والدعوة إلى الإسلام. وفي مجال الفلسفة الإسلامية اهتم الاستشراق بالبحث في أقسامها الثلاثة: الكلام والتصوف والأخلاق ومفاهيمها للمشكلات الفلسفية الكبرى مثل الوجود والمعرفة والإنسان، ومذاهبها وأعلامها وعلاقتها بالقرآن والسنة والعقيدة والشريعة ومنزلتها بين الفلسفات الأخرى.
 وأما عنايته بعلوم المسلمين الطبيعية فقد اختص بدراسة الرياضيات والحساب والفلك والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والنبات والجغرافيا والملاحة والفلاحة وعلوم الأرض.. وغيرها من العلوم التي نهض بها المسلمون وأثروا بها في الغرب الذي بنى هو بدوره نهضته العلمية على إنجازاتهم ومناهج بحثهم فيها. وانصبت عناية الاستشراق بالفنون العربية الإسلامية على دراسة ظواهرها الخاصة ومعاييرها الفنية وعناصرها الزخرفية ومدارسها المتعددة ومشكلة التصوير في الإسلام، كما عني بدراسة فنها المعماري ومتاحفها وعوامل نضجها.
 وأما عنايته باللغة العربية فقد حرص على دراسة كل ما يتصل بها، فبحث في فقهها وأصواتها ولهجاتها ونحوها وصرفها ومعاجمها وغزارتها وعلاقاتها باللغات الأخرى -خصوصاً اللغات السامية- وكل ما أنتجته هذه اللغة، وذلك لصلتها الوثيقة بالإسلام والقرآن والحديث والشريعة..
 والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف وجه أو طوّع الاستشراق كل هذه المادة العلمية الإسلامية؟
 الحقيقة أن كل مستشرق قد تمكن من استعمال مادته الإسلامية لإثبات غايته الخاصة، فالبعض يثبت أن روح الحضارة الإسلامية كما كانت في التصوف عامة والحلاج المصلوب خاصة هي المسيحية. وثاني يثبت أن جوهر الحضارة الإسلامية كما بدا في الفقه عامة وفي التشريع خاصة هي اليهودية. وثالث يؤكد أن تأكيد الإسلام على المساواة والعدالة الاجتماعية وتحريمه الربا وكنز الأموال واحتكارها بين قلة من الأغنياء واعتبار العمل وحده مصدر القيمة وحق الحاكم في المصادرة للمال العام والتأميم لما به مصالح العباد قد تعطي مستشرقاً حديثاً قراءة ماركسية للإسلام. كما قد تدفع روح التجارة والربح والتفاوت في الرزق والنشاط التجاري الحر واقتصاد السوق مستشرقاً حديثاً آخر لقراءة الإسلام قراءة رأسمالية. ومن ثم تصبح الحضارة الإسلامية مادة لتأييد المسيحية واليهودية أو تدعيم الماركسية والرأسمالية دون بحث في روح الحضارة الإسلامية ذاتها لا كوسيلة بل كغاية.
 ومن أجل ذلك تسلل المستشرقون إلى المجامع اللغوية العربية وعملوا في خدمة المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية في الغرب كما فعل أسلافهم مع الملوك والأمراء واتجهوا إلى غرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين حتى يشبوا (مستغربين) في الوقت الذي يحرفون فيه التاريخ الإسلامي ويشوهون مبادئه.
 وكان التبشير محور الجامعات الأمريكية، وسعوا في الوصول إلى أغراضهم تحت عناوين عائمة: التجديد، الفن، النهضة، الحرية..إلخ. وحينما سيطر الاستعمار على الغالبية العظمى من المسلمين في القرن التاسع عشر بدأ الاتجاه العقدي للاستشراق حيث أمسكت بزمامه الأيديولوجيا الاستعمارية التي قادها رينان وبعده هانوتو ثم كرومو وزيمر ودنلوم.. وغيرهم، فكان من الأسف أن يكون في طليعة هؤلاء المستشرقين مبشرون، فأخذوا يختارون الأشياء التي تثير الأوروبيين على المسلمين. وجاء من بعدهم من المستشرقين من سلكوا مسلكهم وحذوا حذوهم ولم يسلكوا مسلك البحث النزيه المجرد، بل كانوا يضعون الاتهام أولاً ثم يبحثون عن الأدلة التي تقوي هذا الاتهام، فأقبل هؤلاء على الاستشراق لأسباب دينية، وهي محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمته وإثبات فضل اليهود على الإسلام بادعاءات أن اليهودية هي مصدر الإسلام الأول، ولأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية فكراً أولاً، ثم دولة ثانياً.
 فمن أسوأ مساوئ الاستشراق في العالم العربي والإسلامي أنه شارك مشاركة فعالة في الحركة الصهيونية التي تجاوبت مع كل القوى المعادية للعرب والمسلمين. وعلى الرغم مما بين المسلمين واليهود من عداوة تراكمت عبر القرون، فإن هناك رأياً شائعاً بأن المسألة الإسلامية تختلف عن المسألة اليهودية، فبينما لا يمكن لليهودية أن تلعب دوراً إيجابياً في العالم سواء في المستقبل القريب أو البعيد، يملك الإسلام إعداد قوة هائلة لاجتياح الغرب والشرق معاً أيديولوجياً من جديد ويمكنه أن يستعين بكل القوى التقدمية التي تنشد الرقي والتطور الحقيقيين. ومن هنا تعاونت نزعة الاستشراق مع الصهيونية. ومع ذلك كله فإن الواقع التاريخي للأمة الإسلامية لا يتوقع للصهيونية مستقبلاً زاهراً، لأنها جسم غريب وضع في غير تربته، ومهما طال وجوده فلا بد له من نتيجة واحدة وهي إزالة ذلك الجسم الغريب من مكانه. ولعل موقف الاستشراق كان أشد خطراً من ذلك كله لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يرى الرؤية الموضوعية الواضحة ويبرز الحقيقة التي لا يشوبها الشك ولكنه لم يفعل ذلك بل تآمر مع الاستعمار والصهيونية في طمس الحقيقة واشترك في هذه الجريمة التاريخية ضد أمة لم تقدم للإنسانية إلا الخير عبر التاريخ. وعلى ذلك فقد لعب المستشرقون دوراً سيئاً في تشوية كثير من الأمور التاريخية وبالذات الدينية جهلاً أو عمداً وبتأثير عقائدي بالدرجة الأولى أدى إلى مسخ الكثير من الجوانب المشرقة ونقلها بصورة مبتورة، وألقت علامات الاستفهام حولها حتى إن بعضهم صوّر العصر العباسي على أنه فقط ليالي (ألف ليلة وليلة الماجنة وعصر الحريم) وشطحات أبي نواس، وعدّ الإسلام عند البعض كما صور امتلاكاً للحريم وقطع الأيدي في وحشية. ويقدم فون غرونباوم للغرب من خلال سلطته المؤسساتية في جامعة شيكاغو وجامعة كاليفورنيا صورة مشوهة عن الإسلام يتضح منها مدى كرهه لهذا الدين الحنيف، وهو بالطبع يريد أن ينقل الصورة إلى أبناء دينه من الغربيين على اختلاف جنسياتهم.
 يفترض فون غروتيلوم أن الإسلام ظاهرة أحادية وحدانية بخلاف أي ديانة أو حضارة أخرى، ثم يمضي بعد ذلك ليظهر الإسلام ديناً غير إنساني، عاجزاً عن التطور ومعرفة الذات والموضوعية، إضافة إلى كونه عقيماً غير خلاق لا علمياً ولا سلوكياً.  ومن قبيل ذلك أيضاً نجد مستشرقاً مثل جولد تسهير (المجري الموطن اليهودي الدم) يؤلف كتاباً عن الإسلام إسهاماً منه في حملة التعصب ضد الإسلام وأهله، ويسميه (الشريعة والعقيدة) وفيه بسط الكلام في أصل الإسلام والروافد التي أمدته على مر العصور على حد زعمه فهو يرى أن الإسلام ليس من صنع محمد (صلى الله عليه وسلم) وحده، بل هو أيضاً من صنع الأجيال التي جاءت بعده.. فالعقيدة والشريعة بدأتا على يد محمد (صلى الله عليه وسلم) في القرن الأول، ثم أتى المفكرون والصالحون والظالمون كذلك فأتموا هذا التراث الساذج الذي تركه النبي العربي وزادوا فيه كماً وكيفاً حتى بلغ الحد الذي وصل إليه في عصرنا هذا.
 وهذا كلام باطل ومرود عند المسلمين، ولكنه ذو تأثير خطير عند غير المسلمين وخصوصاً الغربيين، حيث يريد هذا النوع من الاستشراق (المسموم) أن يشكل موقفاً غربياً من الإسلام يقوم على التعصب ضده، وبالتالي التشكيك فيه مع الاستعداد التام من جانب المستشرقين للرد على أي انتقادات موجهة إليهم من قبل المفكرين المسلمين والعرب.
 طالعنا كتاب (الاستشراق بين دعاته ومعارضيه) لهاشم صالح، بطرح مسألة الاستشراق من جانبها الآخر أي من جهة المستشرقين أنفسهم لكي يردوا على انتقادات الشرقيين لأعمالهم، وذلك عن طريق تقديم نصوص عدة لمكسيم رودنسون، وبرنارد لويس، وكلود كاهين، وفرانسيسكو غابرييلي، وآلان روسيمون، كلهم يردون على موقفين أساسين من مواقف الاستشراق، موقف أنور عبد الملك، وموقف إدوارد سعيد.
 إن قراءة أولية في ردود هؤلاء المستشرقين لتبين أنهم كما أجادوا الهجوم على الشرق ممثلاً في الإسلام وحضارته، فإنهم أيضاً يجيدون الرد على انتقاد مواقفهم، وهم في مثل هذه الردود إنما يحاولون أن ينفوا عن الاستشراق (ظاهرياً أيضاً) ما وصمته به كتابات الشرقيين عن طريق إبراز مواقف بعض المستشرقين الذين درسوا الشرق دراسة علمية بحتة جعلتهم يتحمسون ويدافعون عنه، ليس في الشرق فقط بل في بلادهم أيضاً، الأمر الذي عرّض بعضهم للخطر. وتلك هي الصورة الحزينة التي رسمها المستشرقون في ردهم على انتقادات المفكرين المسلمين للاستشراق. ويمكن الوقوف على أبعاد هذه الصورة من خلال تناول موجز رد أحدهم، وليكن (فرانسيسكو غابرييلي) أحد كبار المستشرقين الايطاليين في القرن العشرين، وكان من أوائل من ردوا على أنور عبد الملك الذي انتقد الاستشراق في كتابه (الاستشراق) فدافع غابرييلي عن الاستشراق ومنجزاته المنهجية والمعرفية، ودعا المثقفين العرب والمسلمين إلى اعتناق المنهجية الحديثة أو (العلمية) في البحث. وأسف لأن أنور عبد الملك قد سقط في الإدانة الأيديولوجية للإنتاج الاستشراقي ككل. وهو يعد ذلك نوعاً من التسرع والمغالاة التي لا تؤدي إلى تقدم البحث العلمي حول الشرق ومعرفته. 
 ويقرر غابرييلي: إن الاتهام الأقدم والأكثر تشدداً ضد الاستشراق هو ذلك الذي يقول بأن الاستشراق كان الأداة (أو المساعد أو الحليف على الأقل) للتغلغل الاستعماري الأوروبي في أرض الاسلام. ويرد على ذلك قائلاً: إنه من الخطأ والمغالطة أن نؤكد أن الباعث الوحيد والأساسي لاهتمام أوروبا بالعالم الشرقي من النواحي التاريخية واللغوية والأدبية والدينية كان مرتبطاً بالمخططات السياسية والاقتصادية للاستعمار. صحيح أنه وجد بعض المستشرقين كعملاء لهذا الاستعمار وكأدوات له (من بينهم القناصل والسفراء والتجار والمبشرون والعسكريون والتقنيون، ويمكن أن يحاكموا فردياً إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك)، ولكن عدداً لا بأس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف. إن الباحثين الشرقيين الذين ينتقدون الاستشراق هم أحرار إذا ما أرادوا أن يمدحوا الاستشراق السوفيتي دون غيره. فهذا الاستشراق يرفع رسمياً الرايات المضادة للاستعمار من أجل إرضاء أبناء العالم الثالث. ولكن ذلك لا يشكل مبرراً كافياً للاشتباه في مستشرق غير سوفييتي أو إدانته بتهمة العمالة للاستعمار. فهذا يعني أنهم ينسون أسماء مهمة كالمستشرق إدوارد براون، الذي قضى حياته وهو يناضل من أجل استقلال فارس وحريتها. كما أنهم ينسون اسم لويس ماسنيون الذي ضربه الفاشيون الفرنسيون ورجال البوليس مرة لأنه أراد أن يفي بالوعد الذي قطعه تجاه العالم العربي.. هذا دون أن نذكر اسم ليون كابتاي، الذي أصبح مدعاة للسخرية في إيطاليا ولقبوه (بالتركي) لأنه عارض احتلال ليبيا. ونضيف إلى هذه الأسماء جمهرة كبيرة من أسماء كبار علماء الاستشراق كتيدورن وادكه، وجولد تسهير، ويوليوس فلهاوزن، وسلفستر دوساسي، وسليفان ليفي، وأولدينبرغ، وبارتولد.. وسوف يدهش هؤلاء كثيراً وهم في قبورهم إذا ما سمعوا أن الحماسة العلمية التي أنهت حياتهم كلهم قد أنزلت إلى مرتبة الخدمات الخسيسة التي قدمت للاستعمار الوليد أو الظافر. يشير كلام (غابرييلي) السابق إلى دعوة حق يراد بها باطل.صحيح أن هناك عدداً من المستشرقين تحمسوا للشرق ودافعوا عنه في كتاباتهم، ولكن عددهم من القلة بحيث يمثلون نسبة ضئيلة جداً لا تكاد تذكر أمام القطاع الأكبر من المستشرقين (المجندين) لتنفيذ مخططات الغرب تجاه الشرق، فتأتي معادية ومشوهة للإسلام وحضارته. كما يجانب غابرييلي الصواب -عن قصد أو غير قصد- لأن معظم المستشرقين الذين ذكرهم، وإن أشاروا في بعض كتاباتهم إلى تجني الغرب على الشرق في جوانب (معينة) فإن لهم كتابات أخرى تنضح بروح التعصب في جوانب أخرى، ناهيك عن أن بعضاً ممن ذكرهم غابرييلي قد أعلن تعصبه ضد الإسلام وحاول التشكيك فيه من أساسه، بمحاولة الطعن في الرسالة المحمدية نفسها، مروراً بالعبادات والمعاملات. وصاحب هذه الدعوة الخبيثة هو جولد تسهير اليهودي الذي عرضنا موقفه في موضع سابق (وحشره) غابرييلي في زمرة المستشرقين المتحمسين للشرق.. إضافة إلى دوساسي الذي عمل طويلاً كخبير في شؤون العالم الإسلامي في وزارة الخارجية الفرنسية..!  وهذا الأمر يدعونا إلى اعتبار موقف غابرييلي عبارة عن خلط للأوراق، ومحاولة ظاهرها السلام، وباطنها العداوة والبغضاء للشرق عامة وللإسلام وحضارته خاصة، فضلاً عن مجانبة صاحبها للحقيقة والصواب. وتلك هي الصورة التي قدمها المستشرقون للغرب عن الإسلام وحضارته، الأمر الذي يدعونا في النهاية إلى التقرير بأن الاستشراق مسؤول بدرجة كبيرة عن تكوين وتشكيل وتأصيل موقف الغرب (المتعصب) ضد الإسلام وحضارته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق