مصادرة الكتب في زمن الإنترنت
الجزائر: نوّارة لحـرش
ما تزال ظاهرة منع ومصادرة الكتب حاضرة ومتكرّرة في المشهد الثّقافي الجزائري، وتتجدّد خاصة بالتزامن مع كل موعد لصالون الجزائر الدولي للكتاب، حيث تخرج إدارة الصالون بقائمة لعناوين الكتب التي أدرجتها في خانة الممنوع من العرض والتواجد في أجنحة الصالون، بسبب تعرّضها لتيمات وموضوعات مُعيّنة، مستفزة ومحرجة للرقيب، فهناك كتب يتم منعها لأنها تتصادم مع الأخلاق أو الدين ومبادئ وتقاليد المجتمع، وأخرى لأنها تحرّض مثلاً على العنف، وأخرى تحت مسميات مختلفة، تصب كلها في تبرير المنع، ومن ثَمّ التسليم بضرورته التي لا مناص منها حسب أهل الحل والربط في هذا الشأن.
لكن يبقى السؤال كبيراً وملحاً وعالقاً: ما جدوى المنع والمصادرة والرقابة في زمن سيلان وهطول الكتب بأعداد مهولة وفي كل التخصّصات وبمختلف الأفكار، من الشبكة العنكبوتية ومواقع الكتب المنتشرة بالآلاف؟
ما جدوى منع ومصادرة كتاب في مناسبة ثقافيّة ما، أو في بلد ما، وهو متاح ومتوافر في بقاع أخرى من الكرة الأرضية وفي مختلف الوسائط والشبكات الالكترونية، وإلى متى ستظلّ الرقابة العشوائية (المنتبهة للعناوين دون المتون) على المنتوج الأدبي والفكري سارية المفعول؟
يرى الدكتور المحاضر، بلكبير بومدين، أن «ظاهرة منع الكُتب غير مبرّرة وغير مقبولة، فالمنع والمصادرة لا يقدمان حلولاً، بقدر ما يساهمان في تكميم الأفواه وتغذية وتنمية العنف في المجتمع، جراء الكبت المنجر عن قرارات الحظر والمنع. كما تدل هذه الظاهرة المنقرضة (في أغلب المجتمعات المتحضرة) على العجز والفشل في إدارة الشأن الثّقافي (والشأن العام ككل)، فيلجأ صاحب القرار كحل ترقيعي يغطي به عجزه إلى الرقيب، ومن هنا يمارس هذا الرقيب سلطته على الإبداع والثّقافة، ويشهر سيف المنع والحظر بلا هوادة كطقس يحيل إلى العصور المظلمة وزمن محاكم التفتيش».
وفي هذا الصدد دائماً، يضيف الدكتور بومدين، الذي تعرّض كتابه «الربيع العربي المؤجل/الكوابح السياسية والاجتماعية والثّقافيّة والاقتصادية للتغيير في الجزائر» الصادر عن دار فضاءات الأردنية، للمنع من العرض في رفوف أجنحة الصالون الدولي للكتاب بالجزائر في طبعته الأخيرة الشهر الفائت: «منع كتابي فاجأني وخلّف موجة من الاستنكار وسط شريحة واسعة من المثقفين والقرّاء داخل وخارج الجزائر. فمن غير المقبول في مجتمع المعرفة الوصاية على القارئ، من خلال تحديد ما يصح أن يقرأه وما لا يصح».
المتحدّث ذاته، يرى أنه لا جدوى ولا فائدة من المنع في عصر التكنولوجيا والفضاءات الافتراضية، سوى تبرير عجز وفشل صاحب قرار المنع، الذي يضيق صدره أمام المثقفين والكتّاب ولا يقوى على تقبُّل الآراء والأفكار المختلفة. واستطرد مواصلاً: «الشبكة العنكبوتية تعجّ بالمواقع المخصّصة لتسويق وبيع الكُتب في مجالات مختلفة وفي صنوف معرفية متنوّعة، كما هناك الآلاف من المواقع التي تعرض الكتب لروّادها وتتيحها لهم للتحميل مجاناً. ولا يمكن للرقيب إطلاقاً من مراقبة تدفق الكتب وسيلانها، فما بالك حظرها ومنعها ومصادرتها. أظن أن من يتّخذ هكذا قرارات، غير مدرك للواقع الجديد الذي أحدثته التطوّرات التكنولوجية المتسارعة ولا يتحكم في متغيّراته».
الدكتور بومدين، أكّد في ختام تصريحه على أن مصادرة الكتب، كثيراً ما تأتي في صالح الكَاتب والكِتاب: «المنع الذي تعرّض له كتابي (الربيع العربي المؤجل) خدم الكِتاب إعلامياً وتسويقياً، وساهم في الترويج له على نطاق واسع، وجعل الكثير من القنوات التليفزيونية والإذاعات والصحف المحلية والعربية والأجنبية، وحتى بعض وكالات الأنباء العالمية تتصل بي وتأخذ تصريحاتي وآرائي عن مضمون الكتاب وعن قرار المنع. كما خلق فضولاً ورغبة كبيرين لدى الكثير من القرّاء (في جهات مختلفة من العالم) في اكتشاف محتوى ومضمون هذا الكتاب المحظور والممنوع، وجعلهم يبحثون عنه ونمى استعدادهم لاقتنائه بأي طريقة كانت».
من جهته، يرى، محمد الأمين بحري، (أستاذ محاضر وباحث أكاديمي) أن حظر الكِتاب سلوك انتحاري للأنظمة التي تتخذه، وقال: «علينا - في مسألة حظر الكتب من المعارض وعلى الحدود- أن نتساءل بعمق: هل أصبح الكِتاب في هذا العصر من الممنوعات التي تهدّد أمن الأمم، مثله في ذلك مثل الأسلحة الفتاكة والمخدرات التي يعاقب من يُدخلها إلى البلدان؟».
بحري، يرى أيضاً أن هكذا سلوك ينم على استغباء الأنظمة لشعوبها، واستصغار وعي مثقفيها، وواصل: «حينما تمارس الوصاية على من يقرأ الكتاب وتعتبره غير راشد، في قراءته التي يمكن أن يؤذي بها نفسه أو غيره، دون أن تفكّر في أن هذا المواطن يتلقّى عبر مختلف أجهزة الاستقبال السيبرنية آلاف الرسائل المسموعة منها والمرئية والمكتوبة».
صاحب كتاب «البنيوية التكوينية»، أضاف مستطرداً: «إن آليات المنع التي لا تتعدّى تحرّياتها حدود العنوان (دون المتن) تنم عن قصور فادح في الذهنيات التي تسير الأنظمة الشمولية، حينما تحاول- عبثاً- منع الكتاب عن القارئ، دون أن تدري بأنها تشجّع المثقفين خاصة على تسليط اهتمامهم على هذا الكتاب الممنوع تحديداً، ودفعهم بقوة المنع إلى الحصول عليه عبر طرق عِدّة، وهو ترويج مجاني تهديه هذه السياسات إلى العمل الذي تسعى لمنعه عن القرّاء».
ويذهب في النهاية إلى أنه «لا يمكن وصف هذا السلوك السياسي القامع للمنتوج الثّقافي (مهما كانت طبيعته وموضوعه) سوى بالانتحاري حينما يمنح قوة هائلة لضحاياه من المثقفين، ويحشد لهم سنداً، وصدى عالمياً لم يحلموا به يوماً، في حين يعري حقيقة الأنظمة التي تستخدمه، ويكشف سياساتها الشمولية الاستبدادية التي تثبت مرّة بعد مرّة أنها سبب كل نكباتها، وسبب كل نجاحات وتألق من تستهدفهم بالحظر من كتّاب وكتب، لم تعد تحتاج لترويج ورقي لكي تلتقي بقرّائها في شتى أنحاء العالم».
بدوره، الروائي عبد الوهاب بن منصور، يتحدّث بهذا الشأن: «مع كلّ تظاهرة ثقافية تكون للاحتفاء بالكِتاب وتقريبه من القارئ بهدف ترسيخ حب الكِتاب وقراءته وتثقيف المواطن وتنمية وعيه، تطالعنا جهات رسمية أو بعض دور النشر أن قوائمها تعرّضت للرقابة وتمّ منع ومصادرة بعض العناوين».
صاحب «في ضيافة إبليس»، استدرك موضحاً: «قد يتم تبرير ذلك في العموم على أنّه مساس بثوابت الأمة، أو نشر ثقافة العنف والتحريض عليه، أو أيّ حجة أخرى، وهنا يتشكّل تياران من داخل أهل الثّقافة والكتاب، فواحد يقول بوجوب المنع وتشديد الرقابة، وآخر يطالب بحرّيّة مرور الكتاب وتداوله، وللتيارين بعض من الصواب كما الخطأ، بعيداً عن النوايا التي تحرّكهما إِنْ وجدت. فالعالم اليوم، بات عالماً مفتوحاً لا يمكن بحالٍ من الأحوال التحكُّم في تنقّل المعلومة والخبر وحتى الكِتاب، فالإنترنت كسّر الحدود والحواجز وسهّل من تنقّل كل وسائل الإعلام من كتب ونشريات وجرائد بسرعة البرق، لذلك ما الفائدة من منع ومصادرة كتاب؟».
بن منصور، يرى أيضاً، أن منع ومصادرة الكتب، كثيراً ما يكون نتيجة لقرارات وتقارير لجنة نظامية لها مبرّراتها الّتي تكون في أغلب الحالات سياسية تتخفى وراء العقائد أو الأخلاق فتفقد مصداقيتها، وهو ما حدث في الجزائر مرّات عديدة. مؤكداً من جهة أخرى أنه «مهما كان ومهما حدث فالكتاب سيعرف طريقه لكل روّاد الإنترنت ويتم تحميله بطرق قانونية وغير قانونية، وربما المنع والمصادرة هو ما يجعل منه كتاباً مطلوباً ومرغوباً. فأغلبيتنا يبحث عن ذلك الممنوع في محاولة لمعرفة مصدر المنع».
المتحدّث ذاته يتابع في ذات المنحى: «أما التيار الآخر فهو الذي يطالب بتجاوز عقلية البوليسي ومحاكم التفتيش بالرقابة لأسباب عديدة منها ما ذكرناه سابقاً، وما عرفناه من تاريخ المنع والمصادرة. ونحن نعرف ما حدث لكتب ابن رشد ولأفكار الحلّاج وغيرهما من خلال تاريخنا الإسلامي، فهل حقاً تمّت المصادرة ونحن الآن نقرأ أغلب ما كتب ابن رشد وبيننا من يعتنق أفكار الحلاّج، وهو يبدو السؤال الصعب: ما الجدوى من مصادرة ومنع الكتب؟».
ويقرّ بن منصور بصعوبة المعادلة: «إننا ولا شك أمام قضية شائكة ومعقّدة، فمن جهة لا يمكنني بحكم توجّهي وقناعاتي أن أدعو لتشديد الرقابة، ومن جهة أخرى أجدني أمام وضعيات خطيرة ببعض منشورات تحمل دعوة للتطرّف أو العنصريّة والعنف. فما العمل؟».
وخلص في الأخير إلى أنه: «ليس من السهل الإجابة، لكن يمكن وضع آليات كتفعيل المجتمع المدني من خلال المؤسسات الجمعويّة والرابطات الحقوقيّة لتكون دائماً عينا نافذة على ما يُنشر من كتب أو غيرها، فتكون على الأقلّ أكثر مصداقية من لجان لم تفرّق بين الشيخين حسن البنا وجمال البنا».
في حين، يرى، الشاعر والناقد عبد القادر رابحي، أن طبيعة ما يوحي به الكِتاب من تصوّرات تجعله محط ما يمكن تسميته بالرقيب الذي لابد أن يفتّش في الكتاب عمّا لا يناسب رؤيته أو موقفه أو طموحاته. مضيفاً: «بقدر ما يوسع الكتاب آفاقاً بقدر ما يُضيّق على آفاق أخرى، ولعلّه لذلك يتحوّل الكتاب إلى عدو نفسه لأنه هو من يصنع الرقيب الذي يتحوّل إلى متسلط مانع متمرّد على من صنعه، قد يكون المنع مسوغاً أخلاقياً في نظر المانع، لكن دائماً يظلّ فعلاً دكتاتورياً تسلطيّاً في نظر الممنوع. المانع والممنوع يتفقان على ترسيخ رؤية ثابتة في عمق القارئ النموذجي مفادها أن كل كتاب هو مشروع انقلاب على قيمة سائدة ما».
صاحب «أرى شجراً يسير» يسلّم بمسألة منع ومصادرة الكتب، التي تحدث عادة بفعل الرقابة وآلياتها، إذ يقول بهذا الشأن: «منذ وجود الكتاب وجد الرقيب ووجد المنع الذي يمارسه على الكتاب. القصة ليست جديدة إذن. إنها من أقدم القصص على الإطلاق، ولذلك تولّد صراع دائم ومتجدّد بين الكِتاب ومن يكتبه، وبين من يراقب الكتاب ويمنعه».
رابحي، يقول من جهة أخرى، ومن زاوية نظر مختلفة: «الكتاب معني بالمنع حتى عندما يتخذ من التكنولوجيا وسيلة للتملُّص من الرقيب المانع، ولذلك فهو يضمر محبة ويخفي جناحيه بين أشرعة الخيال حتى يمتد مع الأزمنة والأمكنة وعبر وسائل الاتصال الأكثر تطوّراً والأكثر تعقيداً، في حين أن الرقيب ليست له القدرة على تبديل وسيلة المنع بوسيلة أقلّ منعاً منها، لأن المنع واحد مهما تعدّدت أشكاله ووسائله، أما الكتاب فحر مُتجدّد حتى وإن بقي على هيئته الأولية كأقدم وسيلة اتصال في العالم وأدومها».
رابحي انتقد في ختام تصريحه سياسة المنع العشوائية، التي تمارس إصدار فتاوى المنع انطلاقاً من العنوان فقط: «المنع كثيراً ما يطال (كتباً) عناوينها لا تعكس محتواها، كأن يكون العنوان ذا دلالة قابلة للمنع في حين أن المحتوى عكس ذلك، وهذا ربما يدل على اكتفاء المانع بممارسة المنع من خلال العنوان دون التأكد من مطابقة العنوان للمحتوى، وهذا وجه غريب من وجوه المنع الذي يدل على النظرة البسيطة للتصوّر الذي يحمله المانع لفكرة المنع في حَدّ ذاتها دون تجشُّم عبء قراءة الأعمال والكتب المُراد منعها».
ما تزال ظاهرة منع ومصادرة الكتب حاضرة ومتكرّرة في المشهد الثّقافي الجزائري، وتتجدّد خاصة بالتزامن مع كل موعد لصالون الجزائر الدولي للكتاب، حيث تخرج إدارة الصالون بقائمة لعناوين الكتب التي أدرجتها في خانة الممنوع من العرض والتواجد في أجنحة الصالون، بسبب تعرّضها لتيمات وموضوعات مُعيّنة، مستفزة ومحرجة للرقيب، فهناك كتب يتم منعها لأنها تتصادم مع الأخلاق أو الدين ومبادئ وتقاليد المجتمع، وأخرى لأنها تحرّض مثلاً على العنف، وأخرى تحت مسميات مختلفة، تصب كلها في تبرير المنع، ومن ثَمّ التسليم بضرورته التي لا مناص منها حسب أهل الحل والربط في هذا الشأن.
لكن يبقى السؤال كبيراً وملحاً وعالقاً: ما جدوى المنع والمصادرة والرقابة في زمن سيلان وهطول الكتب بأعداد مهولة وفي كل التخصّصات وبمختلف الأفكار، من الشبكة العنكبوتية ومواقع الكتب المنتشرة بالآلاف؟
ما جدوى منع ومصادرة كتاب في مناسبة ثقافيّة ما، أو في بلد ما، وهو متاح ومتوافر في بقاع أخرى من الكرة الأرضية وفي مختلف الوسائط والشبكات الالكترونية، وإلى متى ستظلّ الرقابة العشوائية (المنتبهة للعناوين دون المتون) على المنتوج الأدبي والفكري سارية المفعول؟
يرى الدكتور المحاضر، بلكبير بومدين، أن «ظاهرة منع الكُتب غير مبرّرة وغير مقبولة، فالمنع والمصادرة لا يقدمان حلولاً، بقدر ما يساهمان في تكميم الأفواه وتغذية وتنمية العنف في المجتمع، جراء الكبت المنجر عن قرارات الحظر والمنع. كما تدل هذه الظاهرة المنقرضة (في أغلب المجتمعات المتحضرة) على العجز والفشل في إدارة الشأن الثّقافي (والشأن العام ككل)، فيلجأ صاحب القرار كحل ترقيعي يغطي به عجزه إلى الرقيب، ومن هنا يمارس هذا الرقيب سلطته على الإبداع والثّقافة، ويشهر سيف المنع والحظر بلا هوادة كطقس يحيل إلى العصور المظلمة وزمن محاكم التفتيش».
وفي هذا الصدد دائماً، يضيف الدكتور بومدين، الذي تعرّض كتابه «الربيع العربي المؤجل/الكوابح السياسية والاجتماعية والثّقافيّة والاقتصادية للتغيير في الجزائر» الصادر عن دار فضاءات الأردنية، للمنع من العرض في رفوف أجنحة الصالون الدولي للكتاب بالجزائر في طبعته الأخيرة الشهر الفائت: «منع كتابي فاجأني وخلّف موجة من الاستنكار وسط شريحة واسعة من المثقفين والقرّاء داخل وخارج الجزائر. فمن غير المقبول في مجتمع المعرفة الوصاية على القارئ، من خلال تحديد ما يصح أن يقرأه وما لا يصح».
المتحدّث ذاته، يرى أنه لا جدوى ولا فائدة من المنع في عصر التكنولوجيا والفضاءات الافتراضية، سوى تبرير عجز وفشل صاحب قرار المنع، الذي يضيق صدره أمام المثقفين والكتّاب ولا يقوى على تقبُّل الآراء والأفكار المختلفة. واستطرد مواصلاً: «الشبكة العنكبوتية تعجّ بالمواقع المخصّصة لتسويق وبيع الكُتب في مجالات مختلفة وفي صنوف معرفية متنوّعة، كما هناك الآلاف من المواقع التي تعرض الكتب لروّادها وتتيحها لهم للتحميل مجاناً. ولا يمكن للرقيب إطلاقاً من مراقبة تدفق الكتب وسيلانها، فما بالك حظرها ومنعها ومصادرتها. أظن أن من يتّخذ هكذا قرارات، غير مدرك للواقع الجديد الذي أحدثته التطوّرات التكنولوجية المتسارعة ولا يتحكم في متغيّراته».
الدكتور بومدين، أكّد في ختام تصريحه على أن مصادرة الكتب، كثيراً ما تأتي في صالح الكَاتب والكِتاب: «المنع الذي تعرّض له كتابي (الربيع العربي المؤجل) خدم الكِتاب إعلامياً وتسويقياً، وساهم في الترويج له على نطاق واسع، وجعل الكثير من القنوات التليفزيونية والإذاعات والصحف المحلية والعربية والأجنبية، وحتى بعض وكالات الأنباء العالمية تتصل بي وتأخذ تصريحاتي وآرائي عن مضمون الكتاب وعن قرار المنع. كما خلق فضولاً ورغبة كبيرين لدى الكثير من القرّاء (في جهات مختلفة من العالم) في اكتشاف محتوى ومضمون هذا الكتاب المحظور والممنوع، وجعلهم يبحثون عنه ونمى استعدادهم لاقتنائه بأي طريقة كانت».
من جهته، يرى، محمد الأمين بحري، (أستاذ محاضر وباحث أكاديمي) أن حظر الكِتاب سلوك انتحاري للأنظمة التي تتخذه، وقال: «علينا - في مسألة حظر الكتب من المعارض وعلى الحدود- أن نتساءل بعمق: هل أصبح الكِتاب في هذا العصر من الممنوعات التي تهدّد أمن الأمم، مثله في ذلك مثل الأسلحة الفتاكة والمخدرات التي يعاقب من يُدخلها إلى البلدان؟».
بحري، يرى أيضاً أن هكذا سلوك ينم على استغباء الأنظمة لشعوبها، واستصغار وعي مثقفيها، وواصل: «حينما تمارس الوصاية على من يقرأ الكتاب وتعتبره غير راشد، في قراءته التي يمكن أن يؤذي بها نفسه أو غيره، دون أن تفكّر في أن هذا المواطن يتلقّى عبر مختلف أجهزة الاستقبال السيبرنية آلاف الرسائل المسموعة منها والمرئية والمكتوبة».
صاحب كتاب «البنيوية التكوينية»، أضاف مستطرداً: «إن آليات المنع التي لا تتعدّى تحرّياتها حدود العنوان (دون المتن) تنم عن قصور فادح في الذهنيات التي تسير الأنظمة الشمولية، حينما تحاول- عبثاً- منع الكتاب عن القارئ، دون أن تدري بأنها تشجّع المثقفين خاصة على تسليط اهتمامهم على هذا الكتاب الممنوع تحديداً، ودفعهم بقوة المنع إلى الحصول عليه عبر طرق عِدّة، وهو ترويج مجاني تهديه هذه السياسات إلى العمل الذي تسعى لمنعه عن القرّاء».
ويذهب في النهاية إلى أنه «لا يمكن وصف هذا السلوك السياسي القامع للمنتوج الثّقافي (مهما كانت طبيعته وموضوعه) سوى بالانتحاري حينما يمنح قوة هائلة لضحاياه من المثقفين، ويحشد لهم سنداً، وصدى عالمياً لم يحلموا به يوماً، في حين يعري حقيقة الأنظمة التي تستخدمه، ويكشف سياساتها الشمولية الاستبدادية التي تثبت مرّة بعد مرّة أنها سبب كل نكباتها، وسبب كل نجاحات وتألق من تستهدفهم بالحظر من كتّاب وكتب، لم تعد تحتاج لترويج ورقي لكي تلتقي بقرّائها في شتى أنحاء العالم».
بدوره، الروائي عبد الوهاب بن منصور، يتحدّث بهذا الشأن: «مع كلّ تظاهرة ثقافية تكون للاحتفاء بالكِتاب وتقريبه من القارئ بهدف ترسيخ حب الكِتاب وقراءته وتثقيف المواطن وتنمية وعيه، تطالعنا جهات رسمية أو بعض دور النشر أن قوائمها تعرّضت للرقابة وتمّ منع ومصادرة بعض العناوين».
صاحب «في ضيافة إبليس»، استدرك موضحاً: «قد يتم تبرير ذلك في العموم على أنّه مساس بثوابت الأمة، أو نشر ثقافة العنف والتحريض عليه، أو أيّ حجة أخرى، وهنا يتشكّل تياران من داخل أهل الثّقافة والكتاب، فواحد يقول بوجوب المنع وتشديد الرقابة، وآخر يطالب بحرّيّة مرور الكتاب وتداوله، وللتيارين بعض من الصواب كما الخطأ، بعيداً عن النوايا التي تحرّكهما إِنْ وجدت. فالعالم اليوم، بات عالماً مفتوحاً لا يمكن بحالٍ من الأحوال التحكُّم في تنقّل المعلومة والخبر وحتى الكِتاب، فالإنترنت كسّر الحدود والحواجز وسهّل من تنقّل كل وسائل الإعلام من كتب ونشريات وجرائد بسرعة البرق، لذلك ما الفائدة من منع ومصادرة كتاب؟».
بن منصور، يرى أيضاً، أن منع ومصادرة الكتب، كثيراً ما يكون نتيجة لقرارات وتقارير لجنة نظامية لها مبرّراتها الّتي تكون في أغلب الحالات سياسية تتخفى وراء العقائد أو الأخلاق فتفقد مصداقيتها، وهو ما حدث في الجزائر مرّات عديدة. مؤكداً من جهة أخرى أنه «مهما كان ومهما حدث فالكتاب سيعرف طريقه لكل روّاد الإنترنت ويتم تحميله بطرق قانونية وغير قانونية، وربما المنع والمصادرة هو ما يجعل منه كتاباً مطلوباً ومرغوباً. فأغلبيتنا يبحث عن ذلك الممنوع في محاولة لمعرفة مصدر المنع».
المتحدّث ذاته يتابع في ذات المنحى: «أما التيار الآخر فهو الذي يطالب بتجاوز عقلية البوليسي ومحاكم التفتيش بالرقابة لأسباب عديدة منها ما ذكرناه سابقاً، وما عرفناه من تاريخ المنع والمصادرة. ونحن نعرف ما حدث لكتب ابن رشد ولأفكار الحلّاج وغيرهما من خلال تاريخنا الإسلامي، فهل حقاً تمّت المصادرة ونحن الآن نقرأ أغلب ما كتب ابن رشد وبيننا من يعتنق أفكار الحلاّج، وهو يبدو السؤال الصعب: ما الجدوى من مصادرة ومنع الكتب؟».
ويقرّ بن منصور بصعوبة المعادلة: «إننا ولا شك أمام قضية شائكة ومعقّدة، فمن جهة لا يمكنني بحكم توجّهي وقناعاتي أن أدعو لتشديد الرقابة، ومن جهة أخرى أجدني أمام وضعيات خطيرة ببعض منشورات تحمل دعوة للتطرّف أو العنصريّة والعنف. فما العمل؟».
وخلص في الأخير إلى أنه: «ليس من السهل الإجابة، لكن يمكن وضع آليات كتفعيل المجتمع المدني من خلال المؤسسات الجمعويّة والرابطات الحقوقيّة لتكون دائماً عينا نافذة على ما يُنشر من كتب أو غيرها، فتكون على الأقلّ أكثر مصداقية من لجان لم تفرّق بين الشيخين حسن البنا وجمال البنا».
في حين، يرى، الشاعر والناقد عبد القادر رابحي، أن طبيعة ما يوحي به الكِتاب من تصوّرات تجعله محط ما يمكن تسميته بالرقيب الذي لابد أن يفتّش في الكتاب عمّا لا يناسب رؤيته أو موقفه أو طموحاته. مضيفاً: «بقدر ما يوسع الكتاب آفاقاً بقدر ما يُضيّق على آفاق أخرى، ولعلّه لذلك يتحوّل الكتاب إلى عدو نفسه لأنه هو من يصنع الرقيب الذي يتحوّل إلى متسلط مانع متمرّد على من صنعه، قد يكون المنع مسوغاً أخلاقياً في نظر المانع، لكن دائماً يظلّ فعلاً دكتاتورياً تسلطيّاً في نظر الممنوع. المانع والممنوع يتفقان على ترسيخ رؤية ثابتة في عمق القارئ النموذجي مفادها أن كل كتاب هو مشروع انقلاب على قيمة سائدة ما».
صاحب «أرى شجراً يسير» يسلّم بمسألة منع ومصادرة الكتب، التي تحدث عادة بفعل الرقابة وآلياتها، إذ يقول بهذا الشأن: «منذ وجود الكتاب وجد الرقيب ووجد المنع الذي يمارسه على الكتاب. القصة ليست جديدة إذن. إنها من أقدم القصص على الإطلاق، ولذلك تولّد صراع دائم ومتجدّد بين الكِتاب ومن يكتبه، وبين من يراقب الكتاب ويمنعه».
رابحي، يقول من جهة أخرى، ومن زاوية نظر مختلفة: «الكتاب معني بالمنع حتى عندما يتخذ من التكنولوجيا وسيلة للتملُّص من الرقيب المانع، ولذلك فهو يضمر محبة ويخفي جناحيه بين أشرعة الخيال حتى يمتد مع الأزمنة والأمكنة وعبر وسائل الاتصال الأكثر تطوّراً والأكثر تعقيداً، في حين أن الرقيب ليست له القدرة على تبديل وسيلة المنع بوسيلة أقلّ منعاً منها، لأن المنع واحد مهما تعدّدت أشكاله ووسائله، أما الكتاب فحر مُتجدّد حتى وإن بقي على هيئته الأولية كأقدم وسيلة اتصال في العالم وأدومها».
رابحي انتقد في ختام تصريحه سياسة المنع العشوائية، التي تمارس إصدار فتاوى المنع انطلاقاً من العنوان فقط: «المنع كثيراً ما يطال (كتباً) عناوينها لا تعكس محتواها، كأن يكون العنوان ذا دلالة قابلة للمنع في حين أن المحتوى عكس ذلك، وهذا ربما يدل على اكتفاء المانع بممارسة المنع من خلال العنوان دون التأكد من مطابقة العنوان للمحتوى، وهذا وجه غريب من وجوه المنع الذي يدل على النظرة البسيطة للتصوّر الذي يحمله المانع لفكرة المنع في حَدّ ذاتها دون تجشُّم عبء قراءة الأعمال والكتب المُراد منعها».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق