مع كل دخول جامعي تتكرر على مسامعنا الأسطوانة القديمة الجديدة التي تتحدث عن الأرقام المحققة في الجامعة الجزائرية، والتي تتضمن التفاصيل المملة عن عدد الأسرة في الإقامات الجامعية أو عدد الطلبة المتخرجين والمسجلين أو عدد الأساتذة المغادرين والوافدين في مشهد يوحي بأنه لا هم للقائمين على الشأن الجامعي إلا الأرقام ولا شيء غير الأرقام، بما يمنحهم علامة كاملة في الحساب.
إن الأرقام عملية مهمة، ولكن لا ينبغي أن تعطى أكبر من حجمها، لأن الأهم من كل هذا هو الاجتهاد في الانتقال بالجامعة الجزائرية من لغة الأرقام إلى اللغة الرقمية، خاصة أن في العالم من حولنا تجارب ناجحة في هذا المجال، طبعا لا يعقل أن ننتظر أن يتحقق هذا بين عشية وضحاها في جامعاتنا الفتية نسبيا، مقارنة بالجامعات العالمية العريقة لأننا نعلم أن ذلك لا يحدث إلا بعد عملية معقدة لا يمكن أن نختزلها دفعة واحدة،
ولكن لا يعقل أيضا أن تبقى الجامعة الجزائرية رهينة الماضي التقليدي وبعيدة عن الراهن التجديدي.
لخطوات الضرورية لإيجاد جامعة جزائرية رقمية
إن إيجاد جامعة جزائرية رقمية يتطلب القيام ببعض الخطوات الضرورية، ومنها: تأهيل الجامعة الجزائرية لكي تتحول من فضاء مستهلك للمعرفة إلى فضاء منتج للمعرفة، ومن فضاء مقلد إلى فضاء مجدد، إن الاستهلاك والتقليد وخاصة في البدايات مرحلة حتمية ولكنهما ليسا وضعية أبدية، ولذلك فإن التفكير في تغيير النمط الاستهلاكي والتقليدي للجامعة الجزائرية بعد خطوة مهمة من أجل تحقيق مشروع الجامعة الرقمية التي نتطلع إليها، ولكن الراهن يوحي بأن هذا المشروع لا يزال بعيد المنال في جامعاتنا في ظل شيوع المعرفة الجاهزة الوافدة والقوالب الفكرية المقلدة التي لم نستطع إلى الآن التخلي عنها أو على الأقل التخفيف من هيمنتها، إن تجارب الجامعات الرقمية التي اطلعت عليها تؤكد كلها حجم المجهودات الكبيرة التي بذلت من أجل أن تصبح الجامعة جزءا من العالم الرقمي أو بالأحرى قاطرة هذا العالم، المجهودات التي تأسست على نظرة إبداعية وروح تجديدية أفضت إلى إيجاد نموذج جامعي رقمي بكل المقاييس، وهو في حالة تطور باستمرار تبعا للتحديات التي يمليها العصر، لكن في الجامعة الجزائرية شيء محتشم من هذا كله، إذ ما زالت المعرفة الجاهزة الوافدة هي التي تتحكم في مسارها وربما في مصيرها، إن وضعا كهذا إن لم يتم تداركه سيزيد من التبعية المعرفية التي ستعيق مشروع التطوير الرقمي للجامعة الجزائرية الذي نجتر ونكرر الحديث عنه بمناسبة ومن غير مناسبة، وهو في الحقيقة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، لا أعتقد شخصيا أن مشروع الجامعة الجزائرية الرقمية سيتحقق على المدى القريب ولا حتى على المدى البعيد، ما دام أن هذه الجامعة ماتزال جامعة استهلاكية تقليدية، وهذا رغم المجهودات المحدودة والمحتشمة التي تسعى لانتشالها من هذا الوضع البئيس الذي ركنها في المراتب الأخيرة في التصنيفات العالمية.
ومن الخطوات الضرورية أيضا لإيجاد جامعة جزائرية رقمية هي إيجاد المكتبات الرقمية التي تعد بديلا عصريا للمكتبات التقليدية التي سادت لفترة لا بأس بها من تاريخ الجامعات العالمية بما فيها الجامعة الجزائرية، إن بروز نموذج العالم الرقمي سمح ببروز نموذج المكتبات الرقمية التي تعمل على تخزين واختزال الكم المعرفي الهائل في قوالب إلكترونية جاهزة يسهل الوصول إليها بدقة فائقة توفر كثيرا من الجهد والوقت، ولكن هناك شيء مهم يجب الإشارة إليه، وهو أن صورة المكتبات الرقمية صورة خاطئة ومضطربة وربما مشوهة في أذهان كثير من الجامعيين والمهتمين بالشأن الجامعي على العموم، إن كثيرا مما يقال عنها إنها مكتبات رقمية ليست في حقيقة الأمر إلا مكتبات للمسح الضوئي التي استبدلت النسخة الورقية التقليدية بالصورة الضوئية الالكترونية والسبب في ذلك أنها لم تحقق الخصائص التي حددها علماء المكتبات للمكتبات الرقمية أو الالكترونية، فقد حدد –على سبيل المثال- عالم المكتبات جاري كليفلاند خصائص المكتبة الرقمية، ومنها أن هذه المكتبات على خلاف المكتبات التقليدية الورقية تضم المصادر الرقمية المتوافرة خارج الكيان المادي والإداري لأي مكتبة رقمية، ومعنى هذا أن المكتبة الرقمية توفر لروادها ما لم تستطع المكتبات التقليدية توفيره، وهو تمكينهم من المعلومة في أي مكان، فلا حاجة لأن يبقى من يرتادها حبيس أسوارها، ولهذا السبب سماها بعض علماء المكتبات مكتبات بلا جدران، كثير من المكتبات التي يقال عنها إنها مكتبات رقمية قد حققت فقط الجزء الظاهر من العمل الرقمي، ولكنها عجزت أو توانت أو تأخرت عن تحقيق الأجزاء الأخرى أكثر أهمية وأكثر أولوية، ومن خصائص المكتبات الرقمية –كما أضاف جاري كليفلاند- ضرورة تكوين الإطار المكتبي المتخصص في التعامل مع الوسائط الرقمية والتقليدية ومعالجتها وحفظها وضمان استمرارها، وواقع كثير من المكتبات الرقمية !! في جامعاتنا لا يحقق هذه الخاصية، فبعض العاملين في المكتبات التقليدية، ناهيك عن المكتبات الالكترونية من المتطفلين على المكتبات الذين جاؤوا إليها أو حولوا أو تحولوا إليها وفق قواعد غير إدارية في تسيير الموارد البشرية، فوجد المكتبي نفسه في إدارة الموارد البشرية ووجد إطار الموارد البشرية نفسه في المكتبة، هذا مثال فقط لأن مظاهر هذه الفوضى الإدارية في هذا المجال أكثر من أن تحصى، وهو دليل على أن المكتبات الرقمية هي ضحية هذه الفوضى العارمة التي أتت على الأخضر واليابس في الجامعة الجزائرية.
الجامعة الرقمية ضرورة يفرضها توجه الدولة إلى الاقتصاد الرقمي:
ليس من المصادفة أن يفرز التعديل الحكومي الجديد الذي تم منذ أشهر قليلة أن تتوجه الدولة الجزائرية إلى استحداث وزارة منتدبة للاقتصاد الرقمي وعصرنة الأنظمة المالية، إن هذا التوجه يعكس عزم الدولة على مسايرة الواقع الاقتصادي الدولي الجديد في آليات التحكم وتسيير الموارد الاقتصادية بما يضمن السهولة والمرونة في التعامل مع الأسواق العالمية في جوانب الاستيراد والتصدير ومختلف التعاملات الاقتصادية، إن توجه الدولة إلى تكريس الاقتصاد الرقمي يحتم على الجامعة الجزائرية أن تضع هذا في حساباتها وأن تطور برامجها وتنتقل من التعليم الكلاسيكي إلى التعليم الرقمي، إن تجربة الاقتصاد الرقمي على أهميتها لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا تمت رعايتها وتطويرها في الجامعة لكونها المكان الأول والأمثل لإنتاج الكادر الاقتصادي الذي يمكنه أن ينجز ويطور برامج الاقتصاد الرقمي الذي اعتبره اقتصادا بديلا للاقتصاد الكلاسيكي الذي انتهت صلاحيته وفعاليته في ظل عالم رقمي راهن مهيمن.
الجامعة الرقمية ترفض الرداءة والبداوة الجامعية
من المفارقات التي تحدث في بعض الجامعات الجزائرية أن بعض رواد الرداءة والبداوة الجامعية هم الذين يتزعمون مشاريع المكتبة الرقمية والجامعة الرقمية، وهم بشهادة كثيرين أعجز الناس عن التعامل مع جهاز الحاسوب الآلي في جانبه الظاهر المتيسر، ناهيك عن جوانبه الرقمية المعقدة التي يقتضيها مشروع الجامعة الرقمية، إن ضمان نجاح هذا المشروع يبدأ من إبعاد هؤلاء العدميين والمتطفلين الذين كانوا سببا مباشرا في إجهاض كثير من مشاريع تطوير الجامعة، فالجامعة الرقمية تحتاج إلى عقول خلاقة ومواهب عالية قادرة على رفع التحدي وإنجاز المطلوب بالمقاييس العالمية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق