الأحد، 5 يونيو 2011

تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية

تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية

د. سعد بوفـلاقـة
تعتبر مدينة تلمسان من أهم المراكز العلمية والثقافية بالمغرب الأوسط، حيث كانت مكانتها في فترات من تاريخها تضاهي مكانة بجاية عاصمة دولة بني حماد، وقسنطينة، وبونة، وبخاصة في عصر دولة بني زيان (633 – 962 هـ). ويبدو أن الناس عمروا تلمسان منذ فجر التاريخ ولما احتل الفينقيون المدينة سموها (أغادير) وتعني جداراً قديماً أو مدينة محصنة، وفي عهدهم استولى عليها البربر واحتفظوا بهذه التسمية، ثم استحال اسمها إلى (بوماريّة) في عهد الحكم الروماني للمدينة، ومعناها «البساتين».
«وقد أطلق على مدينة تلمسان أيضاً اسم (تاقرارت) وهي كلمة بربرية معناها (معسكر). وقد أطلق هذا الاسم المرابطون في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وهم الذين أنشأوا مدينة تلمسان الحديثة، ومسجدها الجامع أثناء حصارهم لمدينة تلمسان القديمة (أغادير)»(1).
كما أطلق عليها اسم (المنصورة أو تلمسان الجديدة)، بناها المرينيون من أهل فاس على بعد قليل منها في ناحية الغرب، وشيدوا بها مسجداً جامعاً وقصراً وحصناً مسوّراً، وذلك عند نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن للهجرة، إبان حصارهم الكبير لمدينة تلمسان. وأمّا الذي بنى تاقرارت وهي تلمسان الحالية، فهو يوسف بن تاشفين (410 – 500 هـ) أمير المرابطين كما سبق ذكره، وباني مدينة مراكش.
أما المعالم الدينية والتربوية بتلمسان، كالجوامع والمساجد والمدارس فنذكر منها(2):
1 - المسجد الجامع:
المسجد الجامع الذي يعد أول مسجد جامع بني في (أغادير) هو الذي بناه الشريف السيد إدريس الأول، مؤسس دولة الأدارسة سنة (174هـ) ووضع فيه منبراً وكتب عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر سنة أربع وسبعين ومائة»، (19 جوان 790م).
وأعيد بناء مسجد (أغادير) من جديد، ورمم الشريف السيد إدريس الثاني منبره في السنين الثلاث التي قضاها في تلمسان سنة 199 إلى سنة 201 للهجرة.
إن مسجد (أغادير) تهدم وانطمس ولم يسلم من الاندثار إلا منارته العتيقة التي تكون قد بنيت في القرن السابع الهجري.
ومن أسباب عظمة مدينة تلمسان في الحاضر، القيم الفنية التي احتفظت بها إلى الآن، وهي المباني العتيقة الخالدة التي أضفى عليها القدم وتعاقب الأحقاب والدهور سربالاً من الجمال والجلال تباهي بها عواصم الدنيا، وأغلب هذه المباني مساجد ومشاهد، وهي تحف في منتهى الحسن والروعة(3).
2 - الجامع الأعظم:
ومن أشهر مباني تلمسان الجامع الأعظم القائم في وسط المدينة، وطوله ستون متراً (60م)، وعرضه خمسون مترا (50م)، وقد شيد في عهد المرابطين، ولكن المؤرخين اختلفوا في من شيده، فذكر المستشرق الفرنسي جورج مارسي أن أوّل من شرع في بنائه هو يوسف بن تاشفين (410 – 500 هـ) حوالي سنة (1082م). بينما أحمد توفيق المدني المؤرخ الجزائري الكبير يرى أنّ مؤسس الجامع الأعظم هو الخليفة المرابطي علي بن يوسف، وقد انتهى بناؤه سنة (1135م)، وللمسجد منارة ابتناها الأمير يغمراسن الزياني (603-681هـ) يبلغ ارتفاعها خمسة وثلاثين متراً، ووسّع الجامع وأضاف إليه فناء آخر، ووسّع قاعة الصلاة(4).
3 - ضريح ومسجد سيدي أبي مدين الغوث:
وهو تحفة فنية، وآية من آيات الجمال الفني والهندسة العربية البديعة، وموقعه في قرية العُباد (جمع عابد) على بعد كيلومترين من تلمسان، ولقد شيده محمد الناصر بن المنصور الموحدي على قبر الولي الصالح والعلامة الشهير الشيخ سيدي شعيب بن حسين الأندلسي الملقب بأبي مدين الغوث ولد بإشبيلية سنة (520هـ) ودرس بها وبمدينة فاس؛ ثم حج إلى بيت الله الحرام وقفل إلى المغرب فانتصب للتدريس ونفع الناس ببجاية، واستقدمه الخليفة يعقوب المنصور إلى مراكش فسار إليها، إلا أنه توفي أثناء الطريق، ونقل إلى قرية العباد ودفن بها وذلك سنة (594هـ)؛ وتشمل هذه البناية البديعة ثلاثة أقسام: الضريح والمسجد والمدرسة. أما الضريح فهو قبة متقنة النقوش بها قبر أبي مدين، وقبر العلامة سيدي عبد السلام التونسي. والمسجد أبدع جمالاً وأجمل صنعاً من القبة، له باب فخم من أبدع ما أخرجه الفن العربي الأندلسي، وبه نقوش تكاد تكون وحيدة في بابها وتحت قوس الباب مدرج به إحدى عشرة درجة توصلك إلى باب فخم من خشب الساج محلى بصفائح منقوشة نقشاً بديعاً من النحاس الخالص ومساحة المسجد 30 مترا في 18متراً، أما بيت الصلاة وحده فطوله 10 أمتار وعرضه 11متراً، وبه جملة من أساطين المرمر البديعة تحمل على رؤوسها نقوشاً خلابة. والمدرسة تشمل مسجداً وصحناً مستديراً حوله بيوت الطلبة المجاورين لتلقي العلوم بذلك المسجد، وقد شيد المدرسة الخليفة أبو حسن علي سنة 1347م وقد لعبت أيدي الخراب بهذه المدرسة وفقدت الكثير من زخرفها»(5).
4 - قصر المشور:
وهو من أشهر آثار تلمسان، وهو مقام عند منتهى شارع الاستقلال الذي يشق تلمسان، بني المشور سنة (650هـ) وما زال قائما إلى حد الآن، والمشور مشتق من الشورى وهو لفظ مغربي ومعناه الحقيقي المكان الذي كان يعقد فيه أمراء تلمسان مجالسهم للتفاوض مع وزرائهم ورجال دولتهم حول الشؤون العامة(6). وهو قصر يبلغ طوله 490 متراً وعرضه 270 متراً وقد كان مقر الحكومة إلى أن انحطت سلطة بني زيان؛ ومن سوء الحظ أن تلك البنايات البديعة التي كانت به قد استولت عليها يد الخراب، واحتلتها السلطة العسكرية الفرنسية، فجعلت منها إدارات مختلفة(7).
5 - مسجد سيدي أبي الحسن:
وهو من أبدع المساجد وألطفها، به نقوش عربية مدهشة ابتني سنة 1279م وأصبح اليوم متحفاً لآثار تلمسان، وقد ابتني حسبما تنص عليه كتاباته الذهبية فوق المحراب تذكاراً لأبي إبراهيم بن يحيى يغمراسن، سمي مسجد سيدي بالحسن نسبة إلى العلامة الأشهر سيدي أبي الحسن بن يخلف التنسي الذي كان يدرس بتلمسان أيام الأمير أبي سعيد(8).
6 - مسجد سيدي الحليوي:
نسبة إلى أبي عبد الله الشودي الذي تولى قضاء إشبيلية مدة ثم استقر بتلمسان فلقب بالحليوي، وقد ابتناه الأمير المريني أبو عنان فارس سنة 754 هجرية(9).
7 - صهريج بن بدة :
أمر بحفره الأمير أبو تاشفين ملك تلمسان بين سنتي 1318 و1327م وهو معد لسقي البساتين والحدائق المحيطة بتلمسان، ويبلغ طول هذا الصهريج 200 متر وعرضه 100 متر وعمقه 13 متراً وكانت المياه ترد إليه من منابع لالا سبتي الجبلية أما اليوم فهو جاف(10).
8 - جبل لبعل:
ومن المناظر الخلابة، والمشاهد الأخاذة، جبل (لبعل) بالعباد المطل على كل أحياء تلمسان، وهو يبعد عنها بنحو كيلومترين أو تزيد.
والجبل مزين بأشجار الغابة الباسقة الدائمة الاخضرار، وفيه قبة للولي الصالح العارف بالله سيدي الطاهر بوطيبة التلمساني أحد تلامذة شيخ الطريق التجانية سيدي أحمد التجاني الجزائري رضي الله عنه، وضريحه هناك مزار للخاص والعام.
وقد شد الرحلة لزيارته والترحم عليه القاضي العدل الشيخ أحمد سكيرج قاضي سطات بالمغرب الأقصى، ولكنه لم يستطع الصعود إليه لأنه يقع في جبل (لبعل) كما ذكر آنفاً.
ويصعب علينا أن نلم في هذه الأسطر الوجيزة بجميع آثار تلمسان وما أبقته فيها الأيام من تذكار المجد القديم وقد أعلمنا الشاعر الكبير الشيخ محمد السعيد الزاهري أنه ألف كتاباً تحت اسم «حاضر تلمسان» وأنه قدمه للطبع وفيه من التدقيقات الممتعة عن آثار هذه المدينة ما يشفي الغليل ويدرس حاضرها وحاضر المجتمع الجزائري عامة درساً تحليلياً مفيداً(11). وكذلك ألف الأستاذ الحاج محمد بن رمضان شاوش كتابا بعنوان «باقة السوسان في التعريف بحاضرة تلمسان عاصمة دولة بني زيان» عرف فيه بمدينة تلمسان وعلمائها وشعرائها عبر العصور تعريفاً كاملاً شاملاً.
الهوامش:
(1) استقينا هذه المعلومات بتصرف من كتاب البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان لابن مريم، تقديم عبد الرحمن طالب، ص: 8 وما بعدها، اقتبسه من مجلة الأصالة، العدد 26 رجب وشعبان، 1395هـ ص: 296 وما بعدها، مقال بعنوان: تلمسان للسيد محمد بلقراد. وانظر أيضاً: عبد الحميد حاجيات: أبو موسى الزياني: حياته وآثاره، ص: 11 وما بعدها. ومحمد الطمار: تلمسان عبر العصور، ص: 7 وما بعدها. ومحمد سهيل ديب: أساطير تلمسان المحاصرة، (ترجمة رحال رياض)، ص: 8 وما بعدها.
(2) انظر ابن مريم: المصدر السابق، ص: 10 وما بعدها وأحمد توفيق المدني: كتاب الجزائر ص: 203 وما بعدها، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1984، ط 2.
(3) البستان، ص: 10- 11.
(4) أحمد توفيق المدني: المرجع السابق، ص: 203. وابن مريم: المرجع نفسه، ص: 11.
(5) أحمد توفيق المدني: المرجع السابق ص: 204.
(6) البستان، ص: 11.
(7) توفيق المدني، المرجع السابق، ص: 203.
(8) المصدر نفسه، ص: 203.
(9) توفيق المدني: المرجع السابق، ص: 203.
(10) توفيق المدني: المرجع نفسه، ص: 203-204. وانظر أيضاً: ابن مريم: البستان ص: 11.
(11) المدني، ص: 204 – 205.


عاصمة الثقافة الإسلامية 2011
تلمسان لؤلؤة المغرب العربي
محمد مروان مراد
مع بداية العام الحالي 2011 كانت مدينة «تلمسان» الجزائرية على موعد لتتبوأ مكانتها كعاصمة للثقافة الإسلامية خلفاً لمدينة «تريم» اليمنية التي حملت اللقب في العام الماضي2010.
تعد «تلمسان»، واحدةً من مراكز الإشعاع الحضاري المعروفة في الوطن العربي، ومصدر اعتزاز لأبنائها الذين انتشروا على مدار التاريخ في مناطق عربية عدة، وبالذات في شمال أفريقيا.
وتعرف «تلمسان» بلقبها «لؤلؤة المغرب العربي»، وأحياناً بـ «غرناطة إفريقيا»، وقد تضافرت طبيعتها الغنية مع جهود الإنسان المبدع لتجعل منها مدينة متألقة، نابضة بالحياة والجمال.
موقع استراتيجي واقتصادي:
تعتبر «تلمسان» ثاني أهم مدينة في الجزائر بعد مدينة «وهران»، وتقع في الشمال الغربي من الجزائر، على مبعدة 100 ميل من الحدود الجزائرية المغربية، وقد أهّلها موقعها الاستراتيجي لتكون حاضرة لعدد من الدول والممالك المتعاقبة منذ القرن السابع الهجري، الثالث عشر للميلاد.
تقع المدينة على هضبة واسعة ترتفع إلى أكثر من 800 متــرٍ عن سطح البحر، مما جنّبها التعرض للرطوبة وجعل مناخها جافاً، وهواءها لطيفاً، وبحكم هذا المناخ، فهي حارة في الصيف، وباردة في الشتاء، وقد تشهد سقوط الثلوج. وإضافة لهذا فإن غنى الهضبة بأشجار الزيتون والكروم وقربها من البحر المتوسط أعطاها مركزاً اقتصادياً وتجارياً مهماً، حيث عدّت واحدة من محطات طريق الذهب الإفريقي إلى أوروبا، ونقطة اتصال رئيسية بين تجار أوروبا وإفريقيا.
من معسكر صغير إلى حاضرة زاهرة:
بدأ عمران «تلمسان» بإنشاء معسكر روماني عام 201م، سمي «بيوماريا» وهو اسم لاتيني يعني «البساتين» وشيّدت على أطرافه الجنوبية مساكن للعامة وللتجار ثم غزاها «الواندال» القادمون من أوروبا عام 429م.
وما لبثت المدينة أن غدت واحدة من أبرز الحواضر الإسلامية وبالذات في المغرب، بعد الفتح الإسلامي في القرن الثامن الميلادي. وتفخر «تلمسان» بأن قبائلها من «زناتة» كانت من أوائل القبائل البربرية التي دخلت في الإسلام، إذ كان «زمار بن صولات» أول سفير لزناتة لدى الخليفة «عثمان بن عفان» الذي أقرّه والياً على «زناتة» كلها، وقد كانوا في جيش «عقبة بن نافع» لدى فتوحه الأولى في المغرب.
دويلات تعاقبت على السلطة:
شهدت «تلمسان» قيام أول دولة للخوارج «الصفّرية» في المغرب بزعامة «أبي قرة اليفرني الزناتي» الذي ثار على الحكم العباسي ونصّب نفسه إماماً للمسلمين في عام 767م، وإلى «أبي قرة» ينسب بناء مدينة «أغادير» على أنقاض «بيوماريا» الحصن الروماني القديم.
وأدى تطور المواجهات بين العباسيين والعلويين إلى فرار «إدريس بن عبدالله بن الحسن» لاجئاً إلى أغادير، وبالرغم من أنه توجه للمغرب الأقصى، حيث أسس دولة «الأدارسة» فإن «أغادير» دخلت طوعاً تحت سلطته عام (173 هـ ــ 789م) حيث شيّد فيها مسجداً يعدّ الأقدم في المغرب، وتم تجديده ثانية عام 199 هـ على يد إدريس الثاني. واستمر حكم الأدارسة إلى عام 296هـ حين سيطر عليها «الفاطميون» وفر الأدارسة إلى الأندلس، ثم حدث تمرد «زنادة» على الفاطميين إلا أن «جوهر الصقلي» قمع التمرد عام 360 هـ، ووجّه إليها الغزوات الهلالية التي دخلت معها قبائل بربرية جديدة هي «لواتة» و«هوارة» ومن بينهم «بنو عبد الواد» الذين يعدّون من الزناتية الجدد المتأثرين بالهلالية.
سيطر المرابطون على المنطقة بعد الفاطميين عام 468 هـ (1075) ولدى محاصرة «يوسف بن تاشفين» أغادير عام 474هـ/1081م، بنى مدينة جديدة نزلت فيها جيوشه وسماها «تقرارات» وهي كلمة بربرية معناها «المعسكر»، وشرع بإنشاء قصر الحكم في المدينة الجديدة التي التحمت عمرانياً بأغادير الواقعة إلى الغرب منها، لتظهر إلى الوجود المدينة الواسعة «تلمسان» التي أضحت من أكبر المدن في دولة المرابطين الممتدة بين المغرب والأندلس.
وفي عام (540هـ ــ 1145م) أخضع «عبد المؤمن بن علي» المدينة لحكم «الموحدين» بعد تدمير أسوارها، وأعاد تزويدها بسور جديد وقلاع إلى جانب القصور والفنادق والبيوت، وفي هذه الفترة دخل «بنو عبد الواد» في طاعة الموحدين، واكتسبوا حق الاستيطان في المنطقة الممتدة من «وهران» غرباً إلى «تلمسان» شرقاً، وما لبثوا أن استقلوا بالحكم فيها تحت وصاية الموحدين.
ومن بني «عبد الواد» ظهرت الأسرة الزناتية المنسوبة «ليغراسن بن زيان» الذي بدأ حكمه للبلاد في عام 633 هـ، وتعاقب عليه بعده السلاطين الزيانيون الذين حكموا تارة بوصفهم مستقلين، وأحياناً كنواب عن الموحدين، ثم ورثهم «بنو مرين» ونجح الزيانيون في الحفاظ على أملاكهم في وجه الأطماع الأسبانية، خاصة في عهد السلطان «أبي عبدالله محمد» (934 ــ 974هـ) والذي تولى من بعده «أبو زيان» آخر ملوك هذه الدولة. وكان جلّ اهتمام سلاطين «بني عبد الواد» النهوض بعاصمة ملكهم إلى مرتبة حواضر المغرب الإسلامي، فراحوا يجذبون إليهم الوجوه الفكرية والعلمية، وخاصة من الأندلس، ولهذا كان عليهم خلق مناطق حضرية وعمرانية جديدة بجوار النسيج العمراني القديم، وقد منح سقوط «غرناطة» آخر معاقل المسلمين بالأندلس في قبضة ملوك قشتالة، تلمسان مسحة أندلسية ما زالت ظاهرت فيها، فمن جهة استقبلت المدينة عدة آلاف من الأندلسيين الفارين من الاضطهاد المسيحي، ومعهم تأثيرات فنية ومعمارية وعادات أندلسية شملت الطعام ومظاهر الحياة الاجتماعية، وقد اختارها «أبو عبدالله بن محمد» آخر ملوك غرناطة ليقضي آخر أيامه فيها، وبها دفن.
تلمسان والاحتلال الأجنبي:
بعد سنوات من سقوط غرناطة عام 1492م في أيدي الإسبان وسيطرتهم على كامل الأندلس، زحف الغزاة على المدينة، وأطبقوا حكمهم عليها لسنوات طويلة، إلى أن استنجد السكان بالعثمانيين، الذين أخرجوا المحتلين عام 1553م، لتغدو المدينة تحت حكم السلطان العثماني، وإن حظيت بنوع من الاستقلال الذاتي عن الباب العالي في الأستانة، وتوالت الأحداث لتقع «تلمسان» ــ والجزائر كلها ــ في قبضة الاحتلال الفرنسي عام 1844م، وحتى العام 1962 الذي شهد استقلال الجزائر، وقيام الحكم الوطني فيها.
المعالم الحضارية.. شواهد تاريخية:
مدينة «تلمسان» هي العاصمة الإدارية لولاية «تلمسان» التي يبلغ عدد سكانها حوالي المليون نسمة، وتشتمل على 22 دائرة و53 بلدية، وتتوفر المدينة على كثير من المعالم التاريخية المهمة التي جعلت منها متحفاً مفتوحاً للتراث المعماري العربي الإسلامي الراقي، ومن عناصره المدينة القديمة المحاطة بالأسوار، والمساجد الواسعة العتيقة بمآذنها الشامخة بأبراجها المربعة ولونها الآجري وزخارفها الأنيقة. مثل «الجامع الكبير» الذي شيّد في عهد زعيم المرابطين «يوسف بن تاشفين» عام 475هـ/1082م، وتمت فيه عدة توسعات، وإن احتفظ بأجمل عناصره: المحراب والقبة المتميزة الفريدة في نوعها بين قباب العالم الإسلامي، وجامع «المنصورة» في الضاحية المجاورة لتلمسان والتي أسسها المرينيون، وللجامع أسوار مزدوة بثلاثة عشر باباً موزعة بالتناظر، ويرتفع برج مئذنته إلى حوالي 38 متراً، كذلك يمثّل جامع «سيدي بو مدين» في حي «العباد» القائم على أعلى هضبة بأطراف تلمسان واحداً من أهم عمائر المدينة، وهناك مسجد سدي الحلوي، وسيدي بو الحسن، وجامع أغادير، وهي شواهد على الفن المعماري الراقي في مدينة تلمسان.
ومن آثار المدينة الباقية «مدرسة التشفينية» التي شيّدت في القرن الثالث عشر الميلادي، وهي أول جامعة في المغرب العربي، وقد امتد دور «تلمسان» الثقافي كأحد مراكز الإشعاع الحضاري في المنطقة إلى يومنا، إذ تعدّ «جامعة تلمسان» من أهم جامعات الجزائر، وقد اختيرت مؤخراً أفضل جامعة في البلاد.
مرافق سياحية في حضن الطبيعة الساحرة:
تعدّ الإطلالة من فوق هضبة «لالاستي» فرصة رائعة لرؤية «تلمسان» والتمتع بمشاهد المدينة الآسرة.. حيث يدير الزائر بصره على مساحة تقارب العشرة كيلو مترات مربعة يطوّف خلالها بمعالم المدينة المترامية الأطراف، ولا تفوت ضيوف المدينة في مرافق تلمسان الطبيعية، فإلى جانب المناظر الخلابة في السهول الخضراء، هناك الينابيع الطبيعية للعلاج بالمياه المعدنية الساخنة، ومن أبرزها: حمام بوغرة، وشلال «لوريط» بمياهه العذبة، فضلاً عن المغارات المثيرة، والأماكن الخلابة مثل «المنصورة» ودائرة «ندرومة» التابعة لها والتي تضم معالم تاريخية إسلامية مهمة.
وكما أسلفنا فإن «تلمسان» كانت ملاذاً للعائلات الأندلسية التي وفدت من الأندلس إثر استيلاء الإسبان عليها عام 1492م، وحملت معها ألواناً من الفنون الأندلسية، سواء في الصناعات اليدوية أو الغناء الأندلسي، حيث تشتهر المدينة اليوم بأنها أحد مراكز الفن الأندلسي في الجزائر، وإحدى مدارس الغناء الأندلسي القديم، خصوصاً ما يسمى مدرسة الغرناطي (نسبة إلى غرناطة) وكذلك «الحوذي» ويعتبر الشيخ محمد غفور من أبرز مطربي المدينة،
تظاهرة الفكر والثقافة الإسلامية:
? من «تلمسان» يستطيع الزائر أن يتنقل بين المدن الساحلية المجاورة لها في غرب الجزائر: وهران، سيدي بلعباس، و«عين تمو شنت»، انطلاقاً إلى المدن الساحلية على المتوسط مثل الغزوات، ومرسي بن ومهيدي...
? أعدّت «تلمسان» أهبتها لتكون مسرحاً متميزاً يستقبل تظاهرة الثقافة الإسلامية من خلال أنشطة فكرية وفنية واجتماعية، تحيي الوجه المتألق للحركة الوطنية الجزائرية المتمثل في النضال ضد الاحتلال الأجنبي الذي مثله أبناؤها المناضلون من أمثال: مصال الحاج، وأحمد بن بلا، وكذلك الوجه الثقافي الذي مثّله الكتّاب والأدباء ومن أبرزهم المؤرخ الشهير «شهاب الدين المقري» من القرن السادس عشر، وفي العصر الحديث الكاتب الراحل محمد ذيب.
المصـادر:
1) قمم عالمية في تراث الحضارة الإسلامية: د. عبدالقادر الريحاوي ــ دمشق 2000.
2) تلمسان: لؤلؤة المغرب العربي، عادل بوعكاز ــ الشرق الأوسط/ تشرين الأول 2010.
3) مدينة الفن والتاريخ: أحمد الصاوي ــ جريدة الاتحاد/ أيلول 2010.

منقول عن مجلة الرافد الاماراتية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق