وحذّر "بودرامة" من كون الضحية في نهاية الأمر سيكون أبناؤنا ومعلمونا الذين باسم "الجزأرة" و"الجزائرية" و"القيم الوطنية" سيتلقون ويلقنون برامج غير مفهومة وغير موزونة وغير قابلة للتطبيق.
وتابع الخبير التربوي: "أنا هنا لا أتألى على أحد، ولا أعظم من شأن نفسي، ولكني أقف موقف الهدهد الذي قال لسليمان: "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين"، وردا على "مناهج الجيل الثاني" التي تعلق عليها الوزارة والوزيرة أملا كبيرا متعاظما في تحقيق النقلة النوعية للمدرسة في مجال البيداغوجيا وانتشالها من "الرداءة" على حد تعبيرهم، عرض "بودرامة" مجموعة من المؤشرات الدالة وأجملها في ستة محاذير.
عدم وضوح الأنموذج
ركّز صاحب الوثيقة على عدم وضوح الأنموذج (أو النظرية) المتبنى في هذه المناهج، ولاحظ أنّ الأخيرة عبارة عن "مزيج غير متجانس من النماذج والنظريات"، مثلما أنّها "مجمّعة تجميعا مخلاّ ومعطلا"، فكان مثلها كـ "مثل ذلك الذي يدعي العلم بالقرآن، إذ قال وهو يزعم الاستشهاد بآيه: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه / يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا / وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا)؛ فقد أخذ جزءا من آية من هنا وجزءا آخر من هناك وجمع الأجزاء معا (من لقمان إلى يوسف إلى الطارق)".
ولفت "بودرامة": "وكذلك فعل معدّو المناهج: جمعوا شيئا من هنا وشيئا من هناك وصمموا بها مناهج! فكل جزء من الأجزاء صحيح في انفراده، لكنه حال الجمع بينه وبين غيره ينطوي على مغالطة كبيرة وينجلي على منتوج سيئ المنطق مستحيل التطبيق".
كمّ كبير وحشو
انتقد "بودرامة" الكم الكبير من المصطلحات الذي جاءت به "الإصلاحات"، بما من شأنه أن يوقع المتعامل معها في الخلط والتيه.
ولم يستسغ المفتش الحشو في المضمون والانسياق وراء الإطناب الممل، مما جعلها كبيرة في عدد الصفحات (جاوزت المائتين!)، ومن ثمّ خلص إلى "صعوبة مجرد قراءتها فضلا عن فهمها والعمل بها".
وركّز "بودرامة" على صعوبة تطبيق ما تقدّم بسبب انعكاسات: الحشو، الكم الكبير من المصطلحات، التعقيد على مستوى ما تطرحه سواء ما تعلق بهيكلتها، أو ما تعلق بالوضعيات التعليمية، أو ما تعلق بما تطرحه على مستوى التقويم (عدد كبير من الشبكات من شأنه أن يستهلك كل جهد المعلم ووقته بحيث لا يستطيع أن يعطي عملية البناء حقها من الجهد والوقت والاهتمام).
حالة لا تكاملية
أشار الباحث إلى عدم قيام الجرعة الثانية من الإصلاحات، على "تبني سليم للمقاربة المنهاجية" (approche curriculaire)، وتصوّر بعدم تقديمها رؤية كاملة للمناهج في مراحل التعليم كلها، حيث اكتفت في منظوره بـ "تقديم برامج السنوات الأولى والثانية ابتدائي والأولى متوسط"، وكان من المفروض "إعداد مناهج جميع المستويات وفق رؤية متكاملة (من التحضيري أو الأولى ابتدائي إلى الثالثة ثانوي) ثم الشروع في التطبيق الجزئي والمتدرج مع التدخل باستمرار بالتقويم والتعديل (إعادة التنظيم وليس التغيير)".
وأقحم "بودرامة" عامل "عدم تبني الإصلاحات لمنهجية واضحة وسليمة"، وشرح: "هي تدعي تبني المقاربة بالكفاءات، لكن هذه الأخيرة نفسها يعمل الآن على اعتماد نسختها الجديدة (تعليم التجنيد) في الجزائر، وهي النسخة التي لا وجود لها في هذه المناهج (مناهج أعدّت بعيدا عن الإطار المنهجي الذي ترغب الوزارة في تنصيبه!!)".
شكوك تفرض تطبيقا جزئيا
انتهى المتحدث إلى أنّ الشكوك والظنون المبنية على أسس بيداغوجية قائمة حول "صلاحية ما سمي بمناهج الجيل الثاني وقابليتها للتطبيق".. وعليه تسائل "بودرامة": "لماذا لا تتبنى الوزارة طريقة التطبيق الجزئي على سبيل التجريب والاختبار؟ لمدة سنة على الأقل، تقوّم (خلالها وفي نهايتها) تقويما موضوعيا لنقرر بعد ذلك تعميمها أو العكس، بدلا من تعميم تطبيقها من أول وهلة فنخسر الجهد والوقت والمال.. والأهم من ذلك كله نخسر أجيالا كاملة، ونخسر ثقتنا في أنفسنا وفي قدرتنا على الإصلاح والتجديد!".
فيتو
علم "الشروق أون لاين" أنّ الوزيرة نورية بن غبريط" اهتمت بمقاربة "عبد القادر بودرامة"، ورغبت المسؤولة الأولى عن قطاع التربية في تباحثها مع المفتش إياه، إلاّ أنّ (متنفّذين) لعبوا دورا في "إرجاء" الخطوة!
تغوّل "الامتحانات"
جدّد "بودرامة" خوضه في ظاهرة "تغوّل الامتحانات الرسمية" وتوصيف الأخيرة بـ "المصيرية"، وما يترتب عن ذلك من "هالة اهتمام بل همّ يؤدي إلى خوف بل رعب، وإلى قلق بل توتر، وربما حتى "انهيار عصبي".
وأوعز المفتش التربوي أنّ امتحان "البكالوريا" يعدّ الأخطر والأكثر تأثيرا بين امتحانات تتوّج نهاية كل مرحلة من مراحل التعليم الثلاث، وسوّغ ذلك بكون الامتحان المذكور "يصيب بالهوس ويؤدي إلى التخريف على مستوى الفرد (المترشح) والأسرة والمجتمع والدولة!".
العرّافة وبدعة العتبة!
استدلّ "بودرامة" بأمّ ذهبت بابنتها المترشحة لامتحان البكالوريا إلى عرافة، فقالت الأم: "شوفي بنتي تدي الباك ولا ما تديش؟" فقالت العرافة: "تديه وتجيب معاه 2 أولاد"!!، كما أحال على أولياء التلاميذ الذين عبّروا غاضبين عن رفضهم امتحان أبنائهم في البكالوريا وفق منطق المقاربة بالكفاءات!! فما كان من الوزير إلا أن أعلن أن "اطمئنوا البكالوريا لن تكون وفق المقاربة بالكفاءات"!!
واستغرب "بودرامة" تحوّل بدعة "العتبة" الخطيرة والغريبة إلى "سنّة بوزن مكسب" و"حقا لا يمكن المساس به"، ومن يحب أنّ (العتبة تتنحى، هو اللي يتنحى)!!
الغش "قفازة وشطارة"
سجّل "بودرامة" أنّ الخوف والقلق والهوس وغيرها من المشاعر السلبية الملازمة لامتحان البكالوريا "المصيري" أدت أيضا إلى قلب المنظومة القيمية لمجتمعنا؛ حتى أصبح الغش "قفازة وشطارة"، وأضحت كل وسيلة لذلك "مقبولة ومطلوبة ما دامت تؤدي للغاية المنشودة" (النجاح في هذا الامتحان).. وباتت وسيلة الغش "مركز اهتمام التجار والمستوردين، وأصحاب المكتبات وقاعات الأنترنيت".
وأردف: "حتى بعض الأساتذة هداهم الله الذين تحوّلوا إلى "كهنة" يتكهنون مواضيع الاختبارات ويوصون بها المترشحين، الذين بدورهم لا يتورعون في إعداد أجوبتها وكتابتها باستعمال وسائط تطور كل سنة، بدءا من الأشرطة الشفافة التي ترى بمنظار خاص، إلى الأقلام السحرية، إلى البلوتوث، إلى غيرها مما لا نعلم كثيره".
تحالف (المافيوزية) مع السلوك غير السوي
يشدّد مفتش التربية والتعليم لولاية سطيف، على أنّ أخطر ما في قلب المنظومة القيمية للمجتمع، هو "عندما يتحالف في ذلك السلوكُ المافيوزي لبعض التجار والباعة والتلاميذ، مع السلوك غير السوي لبعض المسؤولين على التربية في بعض المناطق، الذين (بحجة الخوف على مناصبهم عندما يحاسبون على نتائج الامتحانات) يلجؤون إلى تسويق التساهل وغض الطرف عن الغش وأسباب الغش، بل إن بعضهم ليصل إلى جعل الغش أمرا منظما ومدبرا بليل، حتى يصبح "جريمة منظمة" يصعب فك خيوطها!!"
وتسائل "بودرامة": "ماذا جنينا من التهويل الكبير والاهتمام المبالغ فيه بما يسمى "الامتحانات الرسمية" ؟! ماذا جنينا أكثر من ''وجع الرأس'' الممتد من بداية السنة إلى نهايتها، على مستوى الفرد والأسرة والدولة؟! الكل مشغول ومهتم ومهموم، ثم في النهاية مستوى التحصيل العلمي عبارة عن "دالة متناقصة تماما"، تدل على ذلك كل المؤشرات، ومثالها الحجم الساعي للدراسة في السنة الذي يكاد يكون أضعف حجم ساعي في العالم، خصوصا في مرحلة التعليم الثانوي أين تبدأ الدراسة فعليا في أكتوبر وتنتهي أواخر أفريل، وبينهما ما بينهما من مناسبات وإضرابات وغيرها!!".
وطرح "بودرامة" استفهامات إضافية بشأن جدوى تشجيع الأقسام الموازية (على غرار السوق الموازية) التي أصبحت "تثقل كواهل الأولياء بمصاريفها الكبيرة، وتثقل كاهل المنظومة التربوية بتقصير المنصرفين إليها من الأساتذة في عملهم الرسمي (إلا من شذ والشاذ يحفظ لا يقاس عليه)؟! إذ أنّ الذي يشتغل في نهاية الأسبوع من الثامنة صباحا إلى العاشرة ليلا، وفي أيام أخرى من السادسة مساء إلى الحادية عشرة ليلا!، لا يمكن بحال أن يَجِدَّ في عمله ويتقنه، ببساطة لأنه يصرف كل قواه!!".
تلقين المعلومات عوّض بناء منهجية التفكير
استاء "بودرامة" لمآلات المنظومة التربوية التي تعاني أيضا حسبه "من حيث نوعية التعليم المقدم؛ فبدل أن ينصب الجهد على بناء منهجية التفكير، التفكير العملي والإبداعي، أصبح يُكتفى بتلقين مجرد معلومات يحفظها التلميذ ليجيب بها في الامتحان بطريقة الاسترجاع الببغائي الساذج، ثم سرعان ما ينساها.. ولذلك يتجه التدريس في الأقسام الرسمية والموازية (وخاصة الأخيرة) نحو تحفيظ كم كبير من حلول التمارين للتلاميذ بحيث لابد أن تكون أسئلة الامتحان من هذا الكم المحفوظ؛ يحفظ التلميذ في الرياضيات حل الدالة اللوغاريتمية أو الأسية، ويحفظ في اللغات ترجمات كتاب معينين ومواضيع معينة تكهن بها الكهنة، ويحفظ في التاريخ موضوعين أو ثلاثا، وحتى في الفلسفة يحفظ التلميذ بعض المقالات في المواضيع المتكهن بها، ليكتبها كما هي في الامتحان، حتى إنه في العام الماضي كان مما احتج به التلاميذ المعبرون عن رفضهم لاختبار الفلسفة، قول بعضهم (لقد حفظت عدة مقالات وما طاح لي حتى واحد فيهم !!!)".
وتوصّل "بودرامة" إلى حتمية ترسيخ الاهتمام بالبناء المتمثل في العملية التعليمية، حتى لا تتفاقم مشكلة منهجية خطيرة أفرزت مشكلات أخلاقية ونفسية واجتماعية وثقافية جرّاء ''الاهتمام المفرط المبالغ فيه بالامتحانات''، ما أبعد الخرّيجين عن مأمول العلماء والعظماء والزعماء والقادة، وزجّ بهم كأرقام إضافية في عالم الحاصلين على الشهائد التي تمكنهم من أن يعملوا موظفين بائسين يُمضون الأوقات، ويترقبون الأجور والعلاوات، ثم التقاعد والمعاشات.. حتى إذا مات الواحد منهم قيل "مات والسلام".
الجمع بين الديمقراطية والمسؤولية
دعا الباحث في علوم الاتصال إلى امتحانات "تجمع بين الديمقراطية والمسؤولية، وتطبعها أجواء المرونة والابتهاج حيث لا مكان للتشنج والتوتر.. امتحانات تكون فيها كل الوثائق مسموحة، لأنها لا تختبر محفوظات الطالب، وإنما تقيس لديه منهجية تفكيره وتصرفه في وضعيات مركّبة غير مألوفة، حيث ينبغي عليه أن يكون قادرا على التأويل الصحيح الذي يقوده إلى الانتقاء والاختيار للموارد المناسبة من خلال تتبنيه لقيم ومواقف مدرسية، ضمن عملية علمية هامة تسمى "التجنيد"، عُمل طيلة السنة (وطيلة المسار) على تعليمه إياها".
وجزم "بودرامة" أنّ تكريس نمط كهذا سيثمر عملية إعداد الإنسان الناجح في الحياة، أيا كانت وجهته وتخصصه.. وسيكون للنجاح معنى حقيقي، غير المعنى الحالي المزيف (نقطة الامتحان) الذي استهلك قوانا المادية والنفسية والقيمية، قوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.