العنف المدرسي
(المظاهر، العوامل، بعض وسائل العلاج)
عبد
المالك أشهبون
على الرغم
من أهمية الانكباب على موضوع «العنف» في شتى مجالاته(عنف الرجل ضد المرأة، عنف
الآباء ضد الأطفال، عنف المشغل ضد العامل…)، فإن ما يمارس من عنف في مؤسساتنا التعليمية
لم ينل الحظ الكافي من الدراسة والتحليل، وحتى ما أسهب فيه المحللون في هذا المجال
يكاد يدور في نطاق مظاهر العنف التي يمارسها المربي على المتعلم، حيث يغدو
المعلِّم/ المربِّي، من خلال هذا المنظور، رجلاً فضاً لا يرحم تلامذته، ويذيقهم
أقسى العقوبات.
فقد كان
هناك تركيز على ربط العنف بمرحلة معينة من التاريخ الدراسي وهو مرحلة التعليم
الابتدائي مع المعلم أو ما قبله مع الفقيه، وقلما نجد تركيزاً على مرحلة المراهقة.
رغم أهمية المرحلة العمرية التي يمر بها التلاميذ، بصفتها مرحلة انتقالية من
الطفولة إلى الرشد، يرافقها كثير من التغييرات الجسدية والنفسية والتي تترك
بصماتها العميقة في شخصية الفرد، وتكيفه مع المؤسسة والمجتمع والبيئة المحيطة به.
ذلك أن
هناك حاجة ملحة للمربين وأولياء الأمور، ومن يتعاملون مع هؤلاء المراهقين إلى
التعرف على خصائص شخصية المراهقين وما يرافقها من انفعالات مختلفة…بحيث يمكنهم
التعامل معهم بوعي، ومساعدتهم لتجاوز مشكلاتهم النفسية، وانفعالاتهم الطارئة وردود
فعلهم المختلفة… و على هذا الأساس، فإن الهدف الأساس من التعرض لقضية العنف
المدرسي لدى المراهق، هو إثارة الانتباه لهذه الظاهرة التي لم تعد مجرد حديث عابر
نسمعه في الشارع وكفى، بل وصلت عدواها إلى مؤسساتنا التعليمية.
وقد تمظهرت
أشكال ممارسة هذا العنف المادي من خلال فعل الضرب والجرح وإساءة الآداب، والعنف
الرمزي…(التحرشات المختلفة، استفحال ظاهرة الكلام النابي، تنامي السلوكات غير
المتسامحة …). كل هذا وغيره هو الذي وجب التنبيه إليه، والتحذير من مغبته،
وبالتالي قرع ناقوس الخطر على المنحى اللاتربوي الذي غدت تعرفه الكثير من مؤسساتنا
التعليمية…
العنف،
بصفة عامة، قضية كبرى، عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة(قتل قبيل لهابيل). كما أنه
أحد القوى التي تعمل على الهدم أكثر من البناء في تكوين الشخصية الإنسانية ونموها،
وهو انفعال تثيره مواقف عديدة، ويؤدي بالفرد إلى ارتكاب أفعال مؤذية في حق ذاته
أحيانا وفي حق الآخرين أحياناً أخرى…
ولقد أسهب
الباحثون في تحديد مفهوم العنف كل من زاويته الخاصة، حيث يعرفه جميل صليبا، في
معجمه الشهير:"المعجم الفلسفي"، بكونه فعل مضاد للرفق، ومرادف للشدة
والقسوة. والعنيف(Violent)
هو المتصف بالعنف. فكل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو،
بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد سورته بازدياد الموانع التي
تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة. و العنيف من الميول:«الهوى الشديد
الذي تتقهقر أمامه الإرادة، وتزداد سورته حتى تجعله مسيطراً على جميع جوانب النفي،
والعنيف من الرجال هو الذي لا يعامل غيره بالرفق، ولا تعرف الرحمة سبيلاً إلى
قلبه.
وجملة
القول إن العنف هو استخدام القوة استخداماً غير مشروع، أو غير مطابق للقانون»().
أما في
معجم «قاموس علم الاجتماع»، فإن العنف يظهر عندما يكون ثمة فقدان «للوعي لدى أفراد
معينين أو في جماعات ناقصة المجتمعية. وبهذه الصفة يمكن وصفه بالسلوك«اللاعقلاني»().
في حين يرى بول فولكي في قاموسه التربوي أن العنف هو اللجوء غير المشروع إلى
القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد، أو عن حقوق الغير«كما أن العنف لا يتمظهر بحدة
إلا في وجود الفرد/المراهق في مجموعة ما»(). أما أندري لالاند فقد ركز
على تحديد مفهوم العنف في أحد جزئياته الهامة، إنه عبارة عن«فعل، أو عن كلمة
عنيفة»(). وهذا ما يدخل في نطاق العنف الرمزي…فأول سلوك عنيف هو الذي
يبتدئ بالكلام ثم ينتهي بالفعل. وهكذا فتحديدات العنف تعددت واختلفت، إلا أن
الجميع يقرُّ على أنه سلوك لا عقلاني، مؤذي، غير متسامح…
إذا كان
العنف المدرسي ليس وليد الساعة طبعاً، فإن حدته ارتفعت وأصبحت بادية للعيان، فقد
باتت الأوضاع الأمنية بمؤسساتنا التعليمية تدعو إلى القلق، وهي ظاهرة تكاد تمس
أغلب هذه المؤسسات؛ لأنها مرتبطة في نظر العديد من الباحثين بعدة عوامل، نسرد منها
الأساسي منها:
تسجل ظواهر
العنف المدرسي بحدة مؤسساتنا التعليمية الموجودة في مناطق معزولة وكذا في الأحياء
الهامشية. إذ تظل الظروف الاجتماعية من أهم الدوافع التي تدفع التلميذ للممارسة
فعل العنف داخل المؤسسات التعليمية. إذ في ظل مستوى الأسرة الاقتصادي المتدني،
وانتشار أمية الآباء والأمهات، وظروف الحرمان الاجتماعي والقهر النفسي والإحباط…كل
هذه العوامل وغيرها تجعل هؤلاء التلاميذ عرضة لاضطرابات ذاتية وتجعلهم، كذلك، غير
متوافقين شخصياً واجتماعياً ونفسياً مع محيطهم الخارجي؛ فتتعزز لديهم عوامل التوتر،
كما تكثر في شخصيتهم ردود الفعل غير المعقلنة، ويكون ردهم فعلهم عنيفاً في حالة ما
إذا أحسوا بالإذلال أو المهانة أو الاحتقار من أي شخص كان.
وهنا يجب
التركيز على دور التنشئة الاجتماعية وما تلعبه من أدوار طلائعية في ميدان التربية
والتكوين، فعندما تعمل التنشئة الاجتماعية على تحويل الفرد ككائن بيولوجي إلى شخص
ككائن اجتماعي، فإنها، في الوقت نفسه، تنقل ثقافة جيل إلى الجيل الذي يليه، وذلك
عن طريق الأسرة والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى. فالتنشئة الاجتماعية من أهم
الوسائل التي يحافظ بها المجتمع عن خصائصه وعلى استمرار هذه الخصائص عبر الأجيال،
وهذه التنشئة هي التي تحمي التلميذ من الميولات غير السوية والتي قد تتبدى في
ممارسة فعل العنف الذي يتسبب، بالدرجة الأولى، في أذى النفس أولاً وأذى الآخرين
ثانياً.
ومن هذا
المنطلق، وجب التأكيد على أن التربية«ليست وقفاً على المدرسة وحدها، وبأن الأسرة
هي المؤسسة التربوية الأولى إلى حد بعيد في تنشئة الأطفال وإعدادهم للتمدرس
الناجح، كما تؤثر في سيرورتهم الدراسية والمهنية بعد ذلك…»(). فهل ما
يزال هذه الجدل قائما بين مؤسساتنا التعليمية وباقي المؤسسات الاجتماعية
الأخرى(الأسرة على الخصوص…)؟
وعلى الرغم
من أهمية التنشئة الاجتماعية ودورها الفاعل في تغيير ميولات التلميذ غير السوية،
فإن التباين حول إمكانات التنشئة الاجتماعية وحدودها لا زال إشكالاً فلسفياً
قائماً، تعبر عنه بوضوح جملة من الأسئلة الإشكالية العامة من قبيل: هل بمقدور
التنشئة الاجتماعية أن تحقق الهدف المطلوب، بصورة كافية، في أوساط أسرية متفككة،
فقيرة ومقهورة ؟ و هل يمكن الحديث عن تنشئة اجتماعية في ظل غياب أولياء الأمور عن
تتبع المسار الدراسي لأبنائهم؟ وبعبارة مختصرة، هل للتنشئة الاجتماعية ذلك المفعول
القوي حتى في حالة تلميذ عنيف يعاني من مشكلات أسرية عميقة(انفصال الوالدين، مرض
أفراد الأسرة…الخ)؟
من الخطأ
القول إن هذا التلميذ أو ذاك مطبوع بمواصفات جينينة تحمله على ممارسة العنف دون
سواه، وأن جيناته التي يحملها هي التي تتحكم في وظائف الجهاز العصبي، فما قد يصدر
عن التلميذ من سلوك عنيف له أكثر من علاقة تأثر وتأثير بالمحيط الخارجي، وبتفاعل
كبير مع البيئة الجغرافية والاجتماعية التي يعيش التلميذ في كنفها. ذلك أن المؤسسة
التعليمية تشكل نسقاً منفتحاً على المحيط الخارجي أي على أنساق أخرى:اجتماعية
واقتصادية وبيئية…ومن تم فإن عوائق التربية المفترضة في المؤسسة التعليمية تتفاعل
مع العوامل الخارجية بالنسبة للمؤسسة التعليمية في كثير من الأحيان.
هذه
المقاربة النسقية للعوائق النفسية الاجتماعية المفترضة في المؤسسة التعليمية، تقود
من الآن إلى توقع تعقد وتشابك هذه العوائق، وتبعاً لذلك تؤدي إلى تبدد مظاهر
البساطة والبداهة في رؤية هذا الموضوع ومقاربته…
فالأشخاص،
حسب العديد من الباحثين، يختلفون من حيث استعداداتهم للتأثر بتجاربهم، لكن يظل
التفاعل بين تراثهم الجيني والوسط المعيشي هو المحدد لطبيعة شخصيتهم، طبعاً
باستثناء الحالات المرضية. فالجينات لا تخلق أشخاصاً لهم استعداد للعنف أو سلوك
عدواني، كما لا تفسر سلوك اللاعنف، رغم تأثيرها على مستوى إمكانيات سلوكنا لكنها
لا تحدد نوعية استعمال هذه الإمكانيات. كما يجمع العديد من العلماء، كذلك، على أن
العنف موجود ولكنه مختلف المظاهر ومتنوع الأسباب. فالكل قد يمارس فعل العنف بدرجة
أو بأخرى في يوم من الأيام، فإذا كانت درجة العنف في الحدود المعقولة كان الإنسان
سوياً يتمتع بالصحة النفسية، وأمكنه أن يسيطر بعقله على انفعالاته، وإذا كانت درجة
العنف كبيرة عانى الفرد من اضطرابات نفسية وشخصية…
ومن منظور
فرويد، فإن مصادر العنف ترتدُّ إلى ما يلي:
1 ـ يبقى
الطفل حتى حل عقدة أوديب لديه، تحت تأثير الرغبة في تأمين استئثاره بعطف الأمومة.
2 ـ تزجه
هذه الرغبة في نزاع مزدوج مع أشقائه وشقيقاته من جهة، ومع أبيه وأمه من جهة أخرى.
3 ـ إن هذا
النزاع الذي يجد من الناحية الواقعية نهايته«عادة» في «مجتمعية» الولد، يمكن أن
يترافق في اللاوعي الفردي بالرغبة في قتل كل من يعارض تحقيق رغبتنا المكبوتة بشكل
كامل تقريباً.
4 ـ وحتى
عند الراشد، فإنه يمكن إعادة تنشيط هذه الرغبة بمناسبة حالات غامضة من الكبت
والعدوانية المفتوحة التي يتعرض لها الفرد خلال حياته().
وعلى هذا
الأساس، فإن التلميذ المراهق يعيدنا إلى ضرورة تحديد مفهوم «المراهقة»، بما أنها
مفهوم سيكولوجي، يقصد بها المرحلة التي يبلغ فيها الطفل فترة تحول بيولوجي
وفيزيولوجي وسيكولوجي، لينتقل منها إلى سن النضج العقلي والعضوي. فالمراهقة، إذن،
هي المرحلة الوسطى بين الطفولة والرشد…
في هذا
السياق، وهو سياق بناء الذات من منظور التلميذ ـ المراهق، لا بد أن تصطدم هذه
الذات، الباحثة عن كينونتها، بكثير من العوائق، بدءاً من مواقف الآباء مروراً
بموقف العادات والتقاليد انتهاء بموقف المربين… فبالإضافة إلى موقف الأسرة الذي
عادة ما يكون إما معارضاً أو غير مكترث، فإن سلطة المؤسسات التعليمية غدت هي
الأخرى تستثير التلميذ المراهق، وتحول دون ممارسته لحريته، كما يراها هو.
وبناء على
ذلك، نستطيع الحديث عن العلاقة التسلطية ما بين المعلم والمتعلم: فسلطة المعلم لا
تناقش(حتى أخطاؤه لا يسمح بإثارتها، ولا تكون له الشجاعة للاعتراف بها)، بينما على
الطالب أن يمتثل ويطيع ويخضع…الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى تعارض صارخ بين
الطرفين، تنتج عنه ردود فعل عنيفة من طرف هذا أو ذاك، الأمر الذي تبرزه العديد من
الأبحاث التربوية في هذا المجال، والتي ترجع دوافع العنف إلى ذلك التناقض الحاد
بين التلميذ والأستاذ في ظل انعدام ثقافة حوارية منتجة وخلاقة وإيجابية.
هذه
العلاقات التسلطية التي تدور في فلك الفعل ورد الفعل«تعزز النظرة الانفعالية
للعالم، لأنها تمنع الطالب من التمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره، وهي المسؤولة إلى
حد كبير عن استمرار العقلية المتخلفة لأنها تشكل حلقة من حلقات القهر الذي يمارس
على مختلف المستويات في حياة الإنسان المتخلف»().
و يعتقد
بعض علماء علم النفس أن الانفعالات: كالعدوان، والخوف، والاستثارة الجنسية، مثلاً
هي عبارة عن«حوافز يتم التخفف منها أو خفضها خلال ذلك المسار الخاص بالتعبير عنها.
فإذا كان الأمر كذلك، فقد تكون أفضل طريقة للتعامل مع الانفعالات القوية هي الوعي
بها و مواجهتها»().
وهنا
يمكننا الحديث عن كبت للمشاعر التلقائية، وبالتالي كبت تطور الفردية الأصيلة الذي
يترسخ في مرحلة المراهقة، والذي يبدأ مبكراً مع الطفل. إذ يجب أن يبقى الهدف هو
تدعيم استقلال التلميذ الباطني والحفاظ على فرديته ونموه و تكامله. وهذا ما غدا
مألوفاً في أدبيات التربية الحديثة، وتكرس مع ميثاق التربية والتكوين الذي يعتبر
قراءة جديدة للوضع التربوي المغربي الراهن على ضوء المستجدات التي طرأت على مفهوم
التربية والتعليم.
فهناك
شواهد على أن التعبير المباشر عن العدوان(Agression ) يعمل على تناقض
احتمالية حدوث النشاطات العدائية( Hostile) التالية. فتوفير
الفرصة للشخص الغاضب للتعبير عن مشاعره/مشاعرها العدائية في التو واللحظة «يعمل
على خفض الحاجة للتعبيرات اللاحقة عن الغضب، حتى لو كان هذا التعبير العدواني
الكلي كبيراً على نحو ملحوظ»(9).
و من
المعقول أن نفترض هنا أنه من دون مثل هذا التنفيس عن المشاعر العنيفة سيكون
التلميذ العنيف أكثر تهيؤاً للعنف بمجرد إحساسه بأي استفزاز أو اختراق داخلي.
كما تجدر
الإشارة إلى أن غالبية التلاميذ الذين يمارسون العنف هم ذكور. و قلما نصطدم
بفتاة/تلميذة تمارس فعلاً عنيفاً في مواجهة الآخر (ذكراً كان أو أنثى). وهذا الأمر
سبق له أن كان موضوع دراسات متخصصة في الغرب؛ ففي دراسة قام بها هوكانسون (Hokanson ) روقبت مستويات ضغط
الدم الخاصة بالأفراد عندما كان غضبهم يستثار من خلال سلوك مشاكسة ـ ما يتم على
نحو متعمد ـ من جانب بعض الشركاء الضمنيين للمجرب في هذه الدراسة. وقد لاحظ هذا
الباحث أن ضغط الدم الخاص بالرجال المشاركين في التجربة كان يعود بشكل أسرع إلى
حالته الطبيعية الأولى، إذا عبروا عن غضبهم بشكل صريح، أما بالنسبة للنساء فقد كان
ضغط الدم الخاص بهن يعود إلى حالته الطبيعية الأولى على نحو أسرع إذا اتسمت
تعاملاتهن مع العاملين ـ المتعاونين خفية مع المجرب ـ بالمودة أكثر من اتسامها
بالعدوانية. ربما كان السلوك العدائي الخارجي هو السلوك الطبيعي المكمل للغضب لدى
الرجال، مقارنة بالنساء، فهن يمتلكن وسائل أكثر تحضراً من الرجال في التعامل مع
المشاعر العدوانية»().
لا يزال
عدد كبير من الناس يعتقد أن النظام التربوي كفيل بتغيير شكل أي مجتمع وتطويره،
ولكن الحقيقة هي أن مهمته في مجتمع يسوده الفقر والكبت وثقافة الإقصاء هي حمايته
والإبقاء عليه. وهذا الأمر يبدو جلياً في إخفاق معظم تجارب نظامنا التربوي الذي
غدا حقلاً مكروراً للتجارب الفاشلة نظراً لما يسود هذه الأنظمة التربوية المفروضة
من ارتجالية وفرض لا يحتمل إلا التنفيذ على علاته.
و لقد كان
السبب الرئيسي في هذا الإخفاق أن إنسان هذه المجتمعات لم يؤخذ بعين الاعتبار،
كعنصر أساسي ومحوري في أي خطة تنمية. في الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات العلمية
والتجارب المجتمعية «أن التنمية مهما كان ميدانها تمس تغيير الإنسان ونظرته إلى الأمور
في المقام الأول، مما يوجب وضع الأمور في إطارها البشري الصحيح، وأخذ خصائص الفئة
السكانية التي يراد تطويره نمط حياتها بعين الاعتبار، ولا بد بالتالي من دراسة هذه
الخصائص ومعرفة بنيتها و ديناميتها»().
كما أن أول
شيء يثير انتباه المهتم بدراسة قضايا التربية والتعليم في بلادنا هو سيادة
"ثقافة الصمت" في المدرسة المغربية. فقد أصبح معتاداً أن ندخل قاعة
الدرس ونجد تلاميذ في حالة صمت مطبق، أو في حالة فوضى عارمة. وثقافة الصمت هي
وسيلة من وسائل الاحتجاج والممانعة ضد كل ما هو مفروض قسراً على التلميذ. يقول
جيمس جويس، على لسان سارده، في روايته/ سيرته الشهيرة "صورة الفنان في
شبابه"، في هذا الصدد:«سأحاول أن أعبر عن نفسي في الحياة أو في الفن على أكثر
الأشكال حرية وكمالاً، مستخدما للدفاع عن نفسي الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي
باستخدامها: الصمت، النفي، المقدرة…»().
فما هي أبعاد
"ثقافة الصمت" داخل المدرسة المغربية؟ إن أبعاداً عديدة بما في ذلك رد
الفعل العدواني المعارض الصادر من التلاميذ. فالبعد الأول هو استضمار التلاميذ
لأدوار سلبية يحويها نص الفصل الدراسي التقليدي. وهكذا تنشئ البيداغوجية الرسمية
التلاميذ باعتبارهم شخوصاً سلبيين/عدوانيين().
هناك، إذن،
أزمة كبيرة ناتجة عن مقاومة التلاميذ للبرامج الرسمية(تغليب جانب الكم على الكيف،
مناهج تعليمية عتيقة، عدم تحيين البرامج التعليمية لما هو سائد)؛ ففي ظل عدم
لامبالاة المسؤولين بهذه الأوضاع التعليمية المختلة، وفي ظل رفض القيام بتغيير
حقيقي للبرامج التي تستلب التلاميذ؛ فإن التلاميذ، من جهتهم، يرفضون الإنتاج في
إطار البرامج الرسمية، وهكذا يراوح النظام التعليمي الرسمي مكانه دون جدوى.
إضافة إلى
مشكلة البرامج التربوية، هناك انعدام آفاق مستقبلية تحفز المتعلم، وتشحذ همته من
أجل البحث و التحصيل. ففي ظل هذه الرؤية السوداوية القاتمة، فإن ما يقوم به
التلاميذ في الواقع هو«إنجاز إضراب برفضهم التعلم تحت هذه الظروف وانعدام الشروط
المادية وغموض الآفاق وانعدام الشغل…فالبطالة هي مآل الأغلبية الساحقة من
التلاميذ. وهكذا أضحى التلاميذ يرون أنه من السذاجة والجنون الخضوع لقواعد لا
يستفيدون منها أي شيء وهي من وضع كائن آخر»().
يمكن
استجلاء الأطراف الأساسية التي تدخل في معادلة ممارسة فعل العنف أو الخضوع لفعل
العنف في مؤسساتنا التربوية، وهي علاقات الفاعل والمفعول به. ويمكن أن نركز دوائر
هذا العنف في المحاور العلائقية التالية:
تتعدد
مظاهر العنف التي يمارسها التلاميذ فيما بينهم، إلا أنها تتراوح بين أفعال عنف
بسيطة وأخرى مؤذية ذات خطورة معينة، ومن بين هذه المظاهر:
ـ اشتباكات
التلاميذ فيما بينهم والتي تصل، أحياناً، إلى ممارسة فعل العنف بدراجات متفاوتة
الخطورة.
ـ الضرب
والجرح.
ـ إشهار
السلاح الأبيض أو التهديد باستعماله أو حتى استعماله.
ـ التدافع
الحاد والقوي بين التلاميذ أثناء الخروج من قاعة الدرس.
ـ إتلاف
ممتلكات الغير، وتفشي اللصوصية…
ـ
الإيماءات والحركات التي يقوم بها التلميذ والتي تبطن في داخلها سلوكا عنيفاً.
لم يعد
الأستاذ بمنأى عن فعل العنف من قبل التلميذ، فهناك العديد من الحالات في مؤسساتنا
التعليمية ظهر فيها التلميذ وهو يمارس فعل العنف تجاه أستاذه ومربيه. وتكثر الحكايات
التي تشكل وجبة دسمة في مجامع رجال التعليم ولقاءاتهم الخاصة، إنها حكايات من
قبيل: الأستاذ الذي تجرأ على ضرب التلميذ، وهذا الأخير الذي لم يتوان ليكيل
للأستاذ صفعة أقوى أمام الملأ…أو أن يضرب التلميذ أستاذه، في غفلة من أمره، ثم
يلوذ بالفرار خارج القسم، أو أن يقوم التلميذ بتهديد أستاذه بالانتقام منها خارج
حصة الدرس، حيث يكون هذا التهديد مصحوباً بأنواع من السب والشتم البذيء في حق
الأستاذ الذي تجرأ، ومنع التلميذ من الغش في الامتحان…الخ.
وهذا ما
تؤكده العديد من تقارير السادة الأساتذة التي يدبجونها حول السلوك غير التربوي
لعينة من التلاميذ المشاغبين. و كلها تقارير تسير في اتجاه الاحتجاج على الوضع غير
الآمن لرجل التعليم في مملكته الصغيرة (القسم)…
ففي كثير
من اللقاءات التنسيقية ما بين الطاقم الإداري ومجالس الأساتذة ترتفع الأصوات عالية
بدرجات العنف التي استشرت في المؤسسات التربوية، وهذه الأصوات العالية كان لها
الصدى المسموع أحياناً لدى الجهات المسؤولة، وترجم ذلك بمذكرات وزارية أو
نيابية(حملات التحسيس بأهمية نشر ثقافة التسامح، منع حمل السلاح الأبيض داخل
المؤسسات التعليمية…). وكلها مذكرات تنص على تفاقم تدهور الوضع الأمني في المؤسسات
التعليمية من جراء العديد من مظاهر العنف. وبموجب هذه المذكرات فإنه على الإداريين
أن يكونوا على يقظة من أمرهم، وذلك بتقفي أثر كل ما يتسبب في انتشار العنف الذي
يزداد يوماً بعد يوم في كنف مؤسساتنا التعليمية…
ونعرف أن
هذا النوع من الحلول بعيد عن النجاعة والفاعلية ما دام صدى هذه المذكرات لا يتجاوز
رفوف الإدارة، بعد أن يضطلع عليها المعنيون بالأمر، لتظل حبراً على ورق كما هو
سابق من مذكرات وتوصيات، تحتاج ، بالدرجة الأولى، إلى وسائل وآليات التنفيذ أكثر
مما هي بحاجة إلى الفرض الفوقي الذي لا يعدو أن يكون ممارسة بيروقراطية بعيدة عن
ميدان الممارسة والفعل.
قد يكون
رجل الإدارة، هو الآخر، موضوعاً لفعل العنف من قبل التلميذ، إلا أن مثل هذه
الحالات قليلة جداً، ما دام الإداري، من وجهة نظر التلميذ، هو رجل السلطة، الموكول
له تأديب التلميذ وتوقيفه عند حده حينما يعجز الأستاذ عن فعل ذلك في مملكته
الصغيرة(القسم)…وهذا ما يحصل مراراً وتكراراً في يوميات الطاقم الإداري، فكل مرة
يُطلب منه أن يتدخل في قسم من الأقسام التي تعذر على الأستاذ حسم الموقف التربوي
فيه.
لا يكفي
الوقوف عند حدود تعريف الظاهرة أو جرد بعض مظاهرها، بل يحتاج الأمر بحثاً جدياً
وميدانياً لمعرفة كيفية التعاطي الإيجابي مع هذه الظاهرة التي تستشري يوما عن يوم
في مؤسساتنا التعليمية. وهذا الأمر لن يتم بدون تحديد المسؤوليات والمهام المنوطة
بكل الفاعلين التربويين لمواجهة هذا الداء الذي ينخر كيان مؤسساتنا التعليمية من
الداخل…فتكاثف الأدوار وتعاضدها وتكامل الجهود قمين بتخفيف حدة هذه الظاهرة، وذلك
في أفق القضاء التدريجي على مسبباتها، فما هو المطلوب منا كفاعلين تربويين وأولياء
أمور وواضعي البرامج التربوية لنكون في مستوى ربح رهان كثير من مظاهر الانحراف
السلوكي، والتغلب عليه بأقل الخسائر؟
إن دور
الإدارة التربوية، قضية مطروحة للنقاش، قيل وكتب عنها الكثير. إلا أننا لا تناولها
بما تستحقه من عمق وتفصيل، وإن حدث ذلك، ففي سياق الحديث عن قضايا أخرى.
وكلنا
يتذكر العقوبات التي كانت الإدارة، بموافقة( إن لم نقل بتأليب) من بعض المعلمين،
تفرضها عن غير حق على التلاميذ في سياق ثقافة الردع والزجر والعقاب التي كانت
سائدة زمنئذ. وهي عقوبات معنوية تصيب في الصميم نفسية التلميذ، وتستهدف كينونته،
وتترك في نفسيته ندوباً عميقة لا تبرأ.
ولقد كان
نصيب التلاميذ الذين يعانون من مشاكل دراسية هو المزيد من الإحباط والإذلال
والتحقير. حيث تعلق على ظهر التلميذ المستهدف لوحة مكتوب عليها: "أنا
حمار"، ويطلب منه،حسب الأوامر الصارمة، أن يدور على الأقسام، قسماً قسما،
والتلاميذ يحملقون في هذا الكائن الصغير الذي لا ذنب له سوى أنه غير متفوق في
دراسته(والمفارقة في زمن تطور النظريات التربوية الحديثة هو التوصل إلى ما يسمى
بالتعلم عن طريق الخطأ). إنه كمن يحمل على ظهره ساعتها صخرة ثقيلة بينما ينأى
كاهله الصغير عن تحملها.
وإذا كان
نصيب غير المتفوقين في دراستهم هو التحقير والإذلال المعنوي، فإن حال من يضبط وهو
متلبس بمخالفة ما لا يقل إذلالً ومهانة، فإذا كان جنحة اختلاس كسرة خبز كافية
لتجعل معلم المطعم يصفع شكري ويطرده من المطعم مدة ثلاثة أيام()؛ فإن
عقاب التلميذ الذي سرق كراساً لا يقل مهانة واحتقاراً وإذلالاً. وهذا ما يذكرنا به
أحمد أمين، حيث يقول:«أما ناظر المدرسة رجل طيب و لكنه لا يفقه شيئاً من أساليب
التربية، ضبط مرة تلميذ يسرق كراساً فأخذه وعلق في رقبته لوحة من الورق المقوى،
كتب عليها بخط الثلث الكبير «هذا لص» حتى إذا وقف الطلبة في طابور العصر أمسكه
الناظر بيده، ومر به على التلاميذ ليؤدبه !…والحق أنه لم يؤدبه ولكن قتله،
فلم أرَ هذا التلميذ يعود إلى المدرسة بعد. وأغلب الظن أنه انقطع عن الدراسة
بتاتاً»().
ومن أنواع
العنف المعنوي الذي كان سائداً، كذلك، هو أن تقدم الإدارة التربوية إلى تصنيف
تلاميذ القسم الواحد إلى صفوف للكسالى وأخرى للمجتهدين، أو فصل للكسالى وآخر
للمجتهدين.
إن الإدارة
التربوية في البلدان المتقدمة تتميز بتركيزها على تحديد المشاكل التي تعترض
العملية التعليمية وتشخيصها والسعي إلى إيجاد حلول لها بدل أن تختلق حلولاً وهمية
لا تليق لا بالعصر ولا بالتطور العلمي الحاصل في ميدان التربية والتعليم. لكن
إدارتنا لم تستطع بعد الرقي إلى هذين المستويين. و ما تزال في مستوى إدارة تربوية
مغلوب على أمرها تارة، أو إدارة بيروقراطية متسلطة بعيدة كل البعد عن حقيقة ما يعتمل
في المؤسسة التربوية من مشاكل وقضايا. والحاصل من كلا التصورين الإداريين هو سوء
إدراك الأبعاد العميقة لمفهوم الإدارة التربوية، وبالتالي عدم القدرة على الوعي
بدراسة المشاكل والانتقال إلى تطوير المشاريع القادرة على تجاوز المشاكل التي
تعترضها من قبيل ظاهرة العنف المدرسي(على سبيل المثال لا الحصر).
إذا كانت
صورة الفقيه في «المسيد» تقترن دائماً بالسوط، فإن صورة المعلم تقترن، كذلك،
بالعصا (لمن يعصى الأوامر)التي كانت تعتبر أحد وسائل «التربية والتكوين» الأساسية
في منظومتنا التربوية التقليدية زمنئذ. لذلك تفنن المعلم في تمثل هذه «الوسيلة»
التعليمية «الفعالة»، ما بين العصا الخشبية أو مسطرة خشبية وأحياناً حديدية، كما
لا يعدم المعلم أشكالاً أكثر قساوة في الزجر والردع؛ ومثال ذلك : سلك الكهربائي أو
الأنبوب المطاطي…ويبدو الأمر، ظاهريا، أن هناك تقاطعاً كبيراً بين المؤسسة التربوي
ومؤسسة السجون، وأوجه التقاطع هاته تتجلى في طبيعة وسائل العقاب والزجر المستعملة
لدى المؤسستين…فهل الأمر يبدو محض صدفة أم أن هناك علاقة خفية بين المؤسستين في
تصور كيفية تطويع وتهذيب وتقويم اعوجاج المستهدف(التلميذ/ المعتقل)…
هكذا كلنا
نتذكر صور المعلم كجلمود صخر، غير رحيم، قاس، متجهم الوجه (وهذا الأمر لا يعني
التعميم، بل إن هناك العديد من المعلمين الذين شكلوا قدوة لتلامذتهم)، فما تزال
أصداء هدير صوته تجلجل في عمق ذاكرتنا الطفولية. يتطاير من عينيه شرار القسوة
والشراسة. أما هدوؤه المؤقت فقد كان عادة ما ينقلب ثورة في لحظة واحدة عند أي
استثارة أو شعور بحركة ما في قاعة الدرس. فهو معلم لا يساعد تلاميذه على تجاوز
أخطائهم ولا يصحح لهم هناتم بكلمات لطيفة رقيقة، بل يعتبر الجواب الخطأ جريمة
يعاقب عليها، والنزق الطفولي إثماً يستدعي الزجر والردع. فقد كان التلميذ، من هذا
المنظور، في حاجة إلى الجلد كل يوم ما دام هذا الصغير لم يتجاوز بعد مرحلة بلادته
وكسله كما يتمثلها المعلم.
فقد كنا
نتمثل صورة القسم على شكل مسار جهنمي مليء بالأشواك والمطبات والموانع، بدءاً
بالوصول إلى المدرسة، بعد بذل جهد مضني من أجل ذلك، فالتفكير ملياً في مزاج المعلم
وما سيكون عليه في هذه الحصة، وكيف يتقي التلميذ ضربات المعلم إن كان مستهدفاً،
مروراً بلحظة ما قبل ولوج قاعة الدرس حيث تتبدى صور التلاميذ وهم يصطفون أولاً في
نظام وانتظام، والمعلم يقف كجلمود صخر يتأمل مشهد الاصطفاف العسكري وعلامات التجهم
والصرامة بادية على قسمات وجهه، وصولاً بصورة التلاميذ في قاعة الدرس وهم ينحنون
في دعة يسجلون في كراساتهم ما يملى عليهم، ومن لم تكن رأسه منحنية، فالويل له. أما
من جالت أفكاره خارج حدود جغرافية الفصل وأدرك المعلم ذلك، فإنه واقع لا محالة في
شر أعماله…وبهذه الطقوس الصارمة التي تورث السكون والصمت القاتل، وتتلف كل إحساس
بالعفوية يتحول القسم إلى صراط جهنمي غير مستقيم… كل ذلك وغيره من رموز الجهامة
والعنف والقوة يشبه الأطياف الليلية التي تخنق صاحبها كلما تذكرها…
و للتذكير،
فإن التاريخ الإنساني عرف العديد من هؤلاء المربين القساة. فقد كانت المدارس
الدينية في الغرب جحيماً لا يطاق. حيث يحدثنا جيمس جويس عن تلك المناظر المريرة
التي لازمته طوال حياته عن صورة المدرسين من رجال الدين:« لم ينس أبداً ذرة من
جبنهم وقسوتهم، غير أن ذكرى ذلك المشهد لم تعد تبعث فيه أي غضب. وعلى ذلك تبدت له
أوصاف الحب والكره العميقين التي أقرأ عنهما في الكتب غير حقيقة»().
وعلى ما يبدو، فإن المدارس الدينية الكاثوليكية كانت تعتبر ممارسة العنف في
التربية والتعليم وسيلة دينية ناجعة في حالة عينة التلاميذ«البلداء»، وذلك، حتى
يحملهم المربي/ القس على أن يحسنوا استذكار دروسهم، والالتفات إلى واجباتهم
الدينية والدنيوية…
أما في
ثقافتنا الإسلامية، فإن عنف المعلم عادة ما يتلبس بلبوس الدَّيْن الرمزي الذي يصل
بالمديون حد العبودية. وذلك من منطلق القول المأثور:«من علمك حرفاً صرت له عبداً».
إذ تتعدد الأمثلة وتتنوع بتعدد التجارب وتنوعها. و يكفي أن نورد أمثلة في الموضوع
عن صورة المعلم في مخيلة بعض الأدباء. وفي هذا الصدد، يتذكر أحمد أمين صورة مدرس
الحساب على الشكل التالي:«فهو مدرس كفء في مادته، مهتم بطلبته، يبذل أقصى جهده في
دراسته، ولكنه غريب الأطوار، يهيج أحياناً ويشتد غضبه فيضرب، وقد يشتد ضربه فيكسر
أو يجرح…»().
أما
المرحوم محمد شكري فيحدثنا عن صورة أحد معلميه في قسم الشهادة الابتدائية، وهو
معلم اللغة العربية، حيث يصفه كما يلي:« يغضب بسرعة، يسب من يخطئ في أدنى شيء.
كلنا، في نظره، حمير وهو راكبنا بعمله وعصاه. يضع دائماً قضيباً على مكتبه. يضرب
من يغضبه، إن ضرباته تجعل المعاقب يقفز ويتقوس. قد يرجع إلى مكانه وهو يدمع(…) إن
هذا الولد الكبير المعلم يغضب مثل من هرب منه قرده إلى السطح كما يقال. يكرهني،
يسخر من ضعفي في كل مواد العربية. في إحدى الحصص لم أكن قد حفظت قصيدة صفي الدين
الحلي (…) اقترب مني غاضباً وهوى على كتفي بقضيبه الرفيع ثلاث مرات. في المرة
الثالثة مسني رأس القضيب في أذني اليسرى. ظل يحقِّر سني المتقدمة، و مستواي
الدراسي حتى ختم غضبه القردي بهذه الكلمات: ـ حمار …غبي…أأنت ستدرس؟ عد إلى طنجتك
مع أولاد السوق بدلاً من أن تضيع وقتك هنا وتضيعه لنا معك»().
والحاصل
مما سبق، أن من أهم مواصفات هذا المعلم هو حبه التلذذ بتعذيب هذا الجسد الصغير،
والتفنن في أن تكون الضربة شديدة وذات صوت مفرقع، إنها مازوخية بشكل من الأشكال.
ويبدو الأمر أن العنف بالنسبة لهذا المعلم/ المازوخي هو الدواء الوحيد الذي يستأصل
روح المشاغبة الطفولي، ويقضي على تلك المسرات الطفولية الصغيرة، ليحيل الطفل، بعد
ذلك، إلى شخصية ذلولة، تطيع في هدوء وصمت وخجل. أما ما يتعلق براهن هذه العلاقة
بين المربي والمتعلم، فقد غدت هذه العلاقة تأخذ منحى آخر، حيث أصبحت العلاقة متوترة
بين الأستاذ وتلميذه، ولم يعد للمربي ذلك الدور السلطوي الذي تحدثنا عنه فيما سبق.
وأضحت هذه العلاقة المتغيرة من الموضوعات المهمة التي يجب البحث فيها والاهتمام
بدراستها، بعد أن أصبحت الشكوى على جميع المستويات من اهتزاز القيم الخلقية،
والمعاناة من مشكلات اجتماعية كالعنف والمخدرات وجنوح الأحداث وانهيار سلطة
المؤسسات التربوية التقليدية كالأسرة ودور العبادة ومشكلات البيئة() …
هذه الشكوى
التي ينبغي ألا تقودنا إلى التشاؤم أو الحسرة على الماضي، والأمل في عودة تلك
الأيام التي كان فيها المدرسون والآباء يحظون بالتقدير والاحترام من قبل الأبناء
والتلاميذ، بل علينا الاهتمام بدراستها، وذلك من خلال تشخيص طبيعتها، وأنماطها،
واتجاهاتها حتى نكون أكثر وعياً بها، وبالتالي يمكن علاجها والحد من انتشارها.
فكثيراً ما
يفرض الأستاذ على التلميذ نموذجاً سلوكياً ما بقوة الأمر والسلطة لا بقوة الحجة
والبرهان؛ فتكون النتيجة عكسية. إذ أن القضية المتعلقة بمن ينبغي عليه أن يقرر
صواب هذا السلوك أو ذاك أو خروجه عن مقتضى التقاليد…؟
ومن
ممارستنا لمهنة التربية والتعليم، استوقفتنا سلوكات بعض المربين الذين يتسنمون
ذروة السلطة، ويريدون تحقيق شكل من أشكال السلوك الذي يرونه«مستقيما»، من منظورهم،
ومن ثم يجرمون كل ما يخرج عما رسموه من الأخلاق الحسنة والسلوك القويم؛ وهذا ما
يؤدي إلى ردود فعل متفاوتة من قبل التلميذ، فقد يكون الرفض مضمراً تارة وقد يكون
جلياً تارة أخرى، كما قد يكون الاحتجاج معقولاً في بعض الأحيان كما قد يكون غير
معقول في أحيان أخرى حين يبلغ رد الفعل ذروته إلى ممارسة العنف الجسدي على
الأستاذ. هكذا علينا كمربين وفاعلين تربويين تجنب خطاب التحقير أو الإذلال أو
الإهانة في حق التلميذ.
ولسوء
الحظ، فإن هذه العقليات المتحجرة والمتزمتة لا ترى في بعض السلوكات لدى التلاميذ
سوى الجانب الأخرق منها والذي يتوجب إنزال أقصى العقوبات على كل من يأتي بها.
ولحسن الحظ، تمتلك المجتمعات الديموقراطية فرصة للتغيير من خلال وسائل غير عنيفة،
موجودة في صميم بنائها، ولذلك ليست هناك حاجة في مثل هذه المجتمعات للخوف من
الانفعالات التي تصدر في لحظة غضب من هذا التلميذ أو ذاك.
وقد يغدو، لدى بعض المنظرين، تجاهل
هذه الظواهر هو أفضل وسيلة وقاية من حدوث ما لا تحدث عقباه، ذلك أن خطط التعليم
لدى بعض التربويين تروم إطفاء الاستجابات غير المرغوب فيها وذلك بتجاهلها والتظاهر
بعدم إيلائها الأهمية المركزية.
هكذا يبدو أن ضبط النفس والالتزام
بالهدوء وعدم مجاراة التلميذ في ميولاته العنيفة، كل ذلك يعمل على امتصاص غضب
التلميذ المنفعل، وذلك هو الرد الحاسم على نزعة العنف التي قد تتحول إلى فعل
عدواني في العديد من الحالات.
كما أن العمل الحواري البناء يستهدف
احتواء السلوكات الانفعالية غير المنضبطة، وبذلك يتمكن هذا العمل من تحقيق هدف
الالتفاف على سلوكات التلميذ غير السوية، في حين تُبْقي نظرية العمل
اللاحواري(المتشنجة أو الحرونة) على هذه التناقضات، بل قد تذكيها، وبالتالي تحول
دون تحقيق التطور اللازم لتحرير التلميذ من سلوكاته الانفعالية غير السوية…
للعودة إلى موقف الآباء وأولياء
الأمور من ظاهرة العنف الذي كان يمارس على التلميذ في سنوات تمدرسه الأولى، فإننا
لا نختلف كثيراً في تحصيل نتيجة مفادها: تزكية الآباء ـ بدرجات متفاوتة ـ لطريقة
التلقين التي كانت تعتمد في جزء كبير على العنف والعقاب، انطلاقاً من القولة
الشهيرة التي كانت توجه إلى المعلم المتسلط، وتدعوه إلى مزيد من العنف والتسلط،
والقولة هي كالتالي:"ادبح وأنا نسلخ".
أما راهنا،ً فكثيراُ ما يتم التعاطي
مع مظاهر العنف المدرسي من قبل الآباء من منظورين رئيسيين:
ـ منظور عقابي ضيق.
ـ أو منظور اللامبالاة والإهمال وعدم
الاكتراث بأي فعل فيه أذى للآخرين قد يصدر عن التلميذ…
فالمنظوران السابقان لا يمكِّنان من
البحث عن حلول ناجعة لمثل هذه الظواهر السلوكية التي نصادفها في مجالنا التربوي،
فالنظرتان تؤديان لا محالة إلى نتائج وخيمة على التلميذ الذي يمارس فعل العنف،
بدون حسيب ولا رقيب، وبدون زجر ولا ردع، وبدون حوار وإرشاد وتهذيب وتأديب.
وطالما يوصي علماء النفس أولياء
التلاميذ الذين يتصفون بهذه السلوكات العدوانية العنيفة، أن يراعوا الاعتبارات
العامة التالية:
1 ـ ضرورة تحديد السلوك الاجتماعي
السيئ الذي يلزم تعديله أولاً(مثلاً السلوك العنيف لدى عينة من التلاميذ ـ استخدام
لغة نابية…).
2 ـ أهمية فتح الحوار الهادئ مع
التلميذ المتصف بالسلوك العنيف، وإحلال نموذج من السلوك البديل الذي يكون معارضاً
للسلوك الخاطئ ليكون هدفاً جذاباً للتلميذ (من خلال ربطه بنظام للحوافز
والمكافأة).
3 ـ ضرورة توظيف ما يسميه علماء
النفس بالتدعيم الاجتماعي والتقريظ لأي تغير إيجابي.
4 ـ إذا كان لا بد أن تمارس العقاب،
فيجب أن يكون سريعاً وفورياً ومصحوباً بوصف السلوك البديل.
5 ـ القيام بتدريب الطفل على التخلص
من أوجه القصور التي قد تكون السبب المباشر أو غير المباشر، في حدوث السلوك
العنيف. مثل تدريبه على اكتساب ما ينقصه من المهارات الاجتماعية، وعلى استخدام
اللغة بدلاً من الهجوم الجسماني، وعلى تحمل الإحباط، وعلى تأجيل التعبير عن الانفعالات،
وعلى التفوق في الدراسة.
6 ـ عدم الإسراف في أسلوب العقاب أو
التهجم اللفظي. فهذه الأنماط من السلوك ترسم نموذجا عدوانياً يجعل من المستحيل
التغلب على مشكلة السلوك العدواني لديه. بل قد تؤدي هذه القدوة الفظة التي يخلقها
العقاب إلى نتائج عكسية().
و من خلال ما سبق، يمكننا التأكيد
على دور الآباء وأولياء الأمور في التحكم الإيجابي في السلوك غير المرغوب فيه لدى
التلميذ، بحيث لا يُتْرك الطفل بدون مراقبة. بل على الآباء أن يحاولوا التدخل
المباشر(وغير المباشر كلما اقتضى الأمر ذلك)لإيقاف هذا السلوك بأقل قدر ممكن.
وهناك أساليب للتدخل في تغيير هذا
السلوك العنيف في شخصية التلميذ، فأحيانا يكون تدخلنا بهدف حفظ ماء وجه التلميذ،
وإعطائه فرصة للتراجع وتعديل السلوك الخاطئ. مع ضرورة استحضار الآباء لعنصر
استخدام المدعمات للخروج بالتلميذ العنيف من المواقف الانفعالية المحتدمة إلى مواقف
سلوكية أقل حدة وتهدئة واتزاناً، وذلك بتوجيه انتباهه لنشاط آخر أو تشجيعه على
الاستمرار في نشاط إيجابي سابق. أما التدخل العنيف في نظير هذه الحالات عادة ما
يؤدي إلى تفاقم المشكلة، ويعمل على الاستمرار في السلوك غير السوي وليس على توقفه
أو إلغائه، بل قد يذكي جذوته مما يترتب عنه عواقب وخيمة على نفسية التلميذ تظهر
الكثير من تجلياتها في النتائج الدراسية الهزيلة، الاضطرابات النفسية، الانقطاع عن
الدراسة الخ …
لا يحتاج فعل العنف إلى ردود فعل
آلية، ولا إلى تهاون وتجاهل في معالجته بل يتطلب هذا المقام التربوي الاستثنائي
تفكيراً جدياً وعميقاً لجميع الفاعلين التربويين، لإيجاد حلول تخفف من انتشار هذه
الظواهر غير التربوية في بلادنا. ومن منظورنا، فإن التصدي الخلاق لنظير هذه
الظواهر اللاتربوية، التي غدت متفشية في مؤسسانتا التعليمية، يقتضي منا هذا المقام
التذكير بأهمية استحضار المفاتيح التربوية الضرورية التالية:
ـ أهمية حث التلميذ على إرساء ثقافة
الحوار بينه وبين أقرانه، وبينه وبين أساتذته، وفي الأخير بينه وبين أفراد أسرته.
ـ إعمال المرونة اللازمة في مواجهة
حالات ممارسة العنف، حتى لا نكون أمام فعل ورد فعل في سيرورة تناقضية لا نهاية
لها.
ـ تحويل مجرى السلوكات الانفعالية
الحادة إلى مناح أخرى يستفيد منها صاحبها، كتوجيه التلميذ نحو أنشطة أقرب إلى
اهتماماته، تناسب نوعية الانفعالات التي قد يلاحظها المربي (رياضية ، ثقافية،
جمعوية، صحية…).
ـ انخراط الجميع (أباء ومربين، وإداريين،
ومجتمع مدني…)في إعادة بناء سلوك التلميذ الذي يتصف بمواصفات عنيفة، حتى يكون
للعلاج مفعوله المتكامل والمتضافر. و ذلك ما نجده مستبعداً في الكثير من الحالات
التي وقفنا عليها أثناء مزاولتنا لمهامنا التربوية والإدارية…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق