الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

إصلاح المنظومة التربوية بالجزائر


تعيش الأسرة التربوية بالجزائر على وقع صراعات كبيرة تتعلق أساسا بما اصطلح على تسميته بإصلاح المنظومة التربوية. هذه المنظومة التي يرى فيها الغلاة والمتعصبون للغة الفرنسية أنها السبب المباشر أو غير المباشر في الأزمة التي
تعيشها البلاد بما فيها الأزمة السياسية، باعتبار أن المدرسة الجزائرية قد تخرج منها "المتزمتون والأصوليون"، في حين يرى البراغماتيون أن المنظومة التربوية يجب أن تساير التقدم العلمي والتكنولوجي والعولمة الجديدة والتفتح على جميع الثقافات والانتماءات على أساس أن العالم لا يعدو أن يكون مجرد قرية صغيرة.

المنظومة التربوية.. خارج سوق المضاربة 
ثمة فئة تعتبر أن تولي الحكومة مناقشة وبحث إصلاح المنظومة التربوية يخرج
هذا الملف المصيري والحساس من دائرة الصراع السياسي المتحزب، ويسحبه من سوق المضاربة والمتاجرة التي كادت أن تؤدي إلى أزمة وطنية خطيرة.
إن التجربة التي عاشتها البلاد في بحث هذا الملف على مستوى اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية أظهرت أن هناك من لا يميز بين المصالح الخاصة والاعتبارات الظرفية من جهة، وبين مصير البلاد و الجماعة الوطنية ومقتضيات الدولة، لدرجة تحول معها النقاش الذي كان من المفروض أن يرتقي إلى مستوى التحديات التي تواجه الجزائر، إلى صراع نفوذ وتهديدات متبادلة بين تيارات مختلفة كادت تُدخل البلاد في دوامة أخرى، وتعرض أمنها واستقرارها إلى الخطر.

إن الخيارات المعلنة من قبل الحكومة في مناقشتها لهذا الملف توحي للوهلة الأولى بأن الاهتمام منصب فعلا على توفير شروط النهضة والتطور في القطاع التربوي التعليمي، حيث إن مراجعة البرامج والمحتويات والمناهج والواقعية في التعامل مع موضوع اللغات تشكل أهم محاور الرؤية الحكومية للملف في سياق تحديثي. وإقرار الحكومة بأن ما تحقق على الصعيد الكمي لا يمكن أن يحجب الثغرات والاختلالات المسجلة في المنظومة التربوية، حيث إنه لا مجال للمداهنة أو إخفاء العيوب، بل ينبغي المضي نحو إصلاحات جذرية لامحيد عنها تضع في صلب اهتمامها إعادة الاعتبار لمنظومة تكوين المكونين وضمان استقرارها وفعاليتها، على اعتبار أن الاضطرابات والتغيرات المتلاحقة والمتناقضة أحيانا، فيما يتعلق بتكوين السلك التعليمي على وجه الخصوص، هو أحد الأسباب الرئيسية لتراجع مردود المنظومة، وقد بقيت المعاهد التكنولوجية عرضة لتقلبات غير مفهومة أحيانا.
وبنفس الرؤية التجديدية والعلمية، تولي الحكومة الأهمية لمراجعة البرامج والمناهج والمحتويات التي تخلفت كثيرا عن المستجدات الحاصلة في حقل العلم والمعرفة وطرائق التعليم التي تعرف تطورات متلاحقة.
وتبرز الأهمية المتزايدة لعنصر المنهجية وأدوات البحث المخبري ومفاتيح الوصول إلى المعرفة، حيث يراعى في ذلك التوازن بين اكتساب المتعلمين والدارسين للمهارات والخبرات العلمية والتقنيات الحديثة وبين ترقية وتعميق هويتهم وشخصيتهم الوطنية، على نحو يجعلهم شركاء وفاعلين في محيطهم المحلي والعالمي لا مجرد مستهلكين سلبيين، ومتفتحين على حقائق الحياة المعاصرة.
ومن هذا المنطلق جاءت ضرورة تعلم اللغات الأجنبية ليطفو صراع المعربين والمفرنسين على السطح، وما زاد في الطين بلة هو إعطاء الدفع القوي للغة الفرنسية في المنظومة التربوية.

وقائع إخفاق معلن لإصلاح المنظومة التربوية 
أول مؤشر للإخفاق المعلن لمشروع إصلاح المنظومة التربوية في نظر المعارضين لهذا المشروع متعلق بالجانب اللغوي، حيث يقترح هذا المشروع تدريس الفرنسية ابتداء من السنة الثانية، واعتماد هذه اللغة في تدريس المواد العلمية بدلا من العربية، أي إعطاء الأفضلية لها على حساب اللغة العربية، وعلى حساب اللغات الأجنبية ولا سيما الإنجليزية، فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، ما هي الخلفية النظرية، إن لم نقل الأيديولوجية، التي يتأسس عليها هذا المشروع في هذا الجانب بالذات، وهو الجانب الأساسي والإشكالي فيه، رغم أن منطلقات هذه الخلفية غير مصرح بها، و تختفي في كثير من الأحيان وراء شعارات براقة مثل الحداثة والعالمية.
إن أحد منطلقات تلك الخلفية التي نريد الوقوف عندها قليلا مؤسس على الاعتقاد الضمني بأن اللغة هي أساس التطور، وبأن تقدم بلد ما يعود الفضل فيه إلى لغته، ومن ثمة فإن سر تقدم فرنسا مثلا يكمن في لغتها، وعليه إذا أردنا نحن الجزائريين أن نتقدم فما علينا إلا استخدام اللغة الفرنسية، أي أن سبب تخلفنا هو اللغة العربية!!
وهكذا نجد أن الأيديولوجية اللغوية عندنا تقوم على نوع من التصور اللغوي للتطور، أي تجعل اللغة العامل الأساس في تقدم أو تأخر المجتمعات، وليس الإنسان، فمشروع إصلاح المنظومة التربوية في نظر معارضيه يقوم على النظر إلى اللغة الفرنسية كما لو أنها العصا السحرية التي سوف تخرج المدرسة الجزائرية من الظلمات إلى النور، أو بتعبير آخر، يقوم مشروع إصلاح المنظومة التربوية الحالي على إقصاء الإنسان كعنصر أساسي في التقدم العلمي والفكري والحضاري بصفة عامة.

العامل الثاني المؤسس للإخفاق المعلن لمشروع المنظومة التربوية المقترح هو أنه قائم على قراءة خاطئة للأسباب التي أنجبت سلبيات المنظومة التربوية الحالية، وذلك بعدما عزلت هذه الأسباب عن المحيط العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الذي ترتبط به المدرسة الجزائرية الحالية، وحملت العربية ومادة التربية الإسلامية هذه المسؤولية، حيث لا يمكن لأي منظومة تربوية أن تؤدي عملها في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة للغاية، سواء للدولة أم الأفراد، وتدهور المستوى المعيشي بسبب التحولات الاقتصادية التي تعرفها الجزائر، والضغوط الممارسة عليها من أجل انتهاج سياسة معينة في المجال الاجتماعي للتحكم أكثر في دواليب العولمة الاقتصادية على وجه الخصوص.
وبما أن المدرسة هي جزء من المجتمع تتأثر به سلبا أو إيجابا، لا يمكن أن نعزل إصلاح المنظومة التربوية عن الإصلاح العام للأوضاع التي تتخبط فيها البلاد، كما أن على التشريح الموضوعي والعلمي لمشاكل المنظومة التربوية الحالية ولأسبابها وجذورها يتوقف نجاح أي إصلاح.

العامل الثالث للإخفاق، هو ما قد يترتب على تطبيقه من ضعف الانسجام المميز للمجتمع الجزائري، وإقصاء وظيفة إدماج الأفراد داخل المجتمع فيما يخص الدور المنوط باللغة في إطار هذه المنظومة التربوية، فدور الإدماج داخل المجتمع لا يمكن أن تقوم به بشكل أساسي سوى اللغة العربية، يدل على ذلك عدم الاندماج الجيد في المجموعة الوطنية للمناطق التي يغلب عليها اللغة العامية بما في ذلك التي تتحدث بالأمازيغية.
إن وجهات النظر المختلفة، والتي تقف على طرفي نقيض في بعض الأحيان فيما يتعلق بإصلاح المنظومة التربوية، هي في الحقيقة تزيد النقاش العام حول هذا الموضوع ثراء، إذ تسمح باكتشاف مجمل التوجهات الفكرية والثقافية لمختلف شرائح المجتمع، وبالتالي بناء تصور عام يحترم مختلف التوجهات والحساسيات الموجودة بعيدا عن الأحادية في الرأي والاستبداد في المواقف التي عادة ما تولد ضغوطات إضافية تجعل المجتمع يعيش في جو من الرفض المطلق لكل ما هو جديد ، وبالتالي الاستمرار في الانغلاق على النفس والانغلاق عن التحولات التي تجري في العالم، خاصة فيما يتعلق بمجال العلوم والمعرفة والتطور التكنولوجي الذي أضحى ضرورة حضارية.
وإصلاح المنظومة التربوية بالجزائر كغيرها من المواضيع دخلت ساحة المناقشة والجدل من بابها الواسع، لحساسية الموضوع وأهميته القصوى في تحديد معالم بناء مجتمع متوازن ومتكامل ومستقر في ظروف لا تعرف الاستقرار نهائيا، بل إن ميزتها هي الحركية الدائمة والتغير المستمر، وهو ما جعل الإصلاح صعبا وضروريا في نفس الوقت.

اقتراحات براغماتية 
من بين الاقتراحات الأخرى والمتعلقة بإصلاح المنظومة التربوية والتي يرى
فيها البعض أنها اقتراحات تقنية وبراغماتية نجد اقتراحا بالإلغاء الكلي للتعليم الأساسي، وتعويضه بالتعليم المتوسط بدراسة أربع سنوات بدل ثلاث سنوات في الطور الثالث، في حين ستقلص مدة التعليم الابتدائي إلى خمس سنوات بدل ست سنوات، كما سيتم ضمان تعليم اللغتين الأجنبيتين الفرنسية والإنجليزية عام 2003 في مرحلة التربية القاعدية الإلزامية مع برمجة إدخالها المبكر بالنسبة للوضعية الحالية، وإدخال اللغة الأجنبية الثالثة اختيارية في الشعب الأدبية بالتعليم الثانوي وتطوير تعلمها، كما سيتم إدخال وحدة علمية باللغة العربية في مستوى التعليم العالي في التخصصات الطبية والعلمية والتكنولوجية، حيث ستسمح هذه العملية من توظيف عدد كبير من حاملي الشهادات الجامعية الذين هم في حالة بطالة، كما تقرر إعادة تأهيل التاريخ والفلسفة كمواد أساسية، وسيشرع بإدخال التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال في المنظومة في سنة 2004 التربوية وذلك لتسهيل دخول البلاد في مجتمع الإعلام وفي سنة تطبيق التنظيم الجديد للتعليم ما بعد الإلزامي ليتحول التعليم الثانوي إلى طور يحضر فقط لالتحاق بالتعليم العالي، في حين سيتم مراجعة مضامين التعليم العالي وتكييفها مع المقتضيات الاقتصادية من خلال إصلاح الخدمات الجامعية والرفع من درجة النجاعة والفعالية في أداء الإدارة الجامعية ولا سيما عن طريق عصرنة تنظيمها وتسييرها، وفي سياق إنجاح هذا الإصلاح ستنشأ هيئتان تدعمان المنظومة التربوية، تكون الأولى هيئة للتشاور وتتمثل في المجلس الوطني للتربية والتكوين، أما الثانية فهي هيئة الضبط وتتمثل في المرصد الوطني للتربية والتكوين، في حين سيتم الانتقال بعد ذلك إلى إنشاء أقطاب التميز في ميدان البحث من خلال تزويدها بالإمكانيات الضرورية لتسند إليها مهام إنجاز المشاريع الوطنية الكبرى للبحث.
وبين هذا وذاك لا تزال إشكالية إصلاح المنظومة التربوية بالجزائر بين أخذ ورد سيكشف الدخول المدرسي الجديد عن عيوبها ومزاياه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق