سورة ق - سورة 50 - عدد آياتها 45
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق - تفسير السعدي
" ق والقرآن المجيد "
" ق " سبق الكلام على الحروف المقطعة في أولى سورة البقرة.
أقسم الله تعالى بالقرآن الكريم ذي المجد والشرف. " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب "
بل عجب المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم أن جاءهم منذر منهم ينذرهم عقاب الله, فقال الكافرون بالله ورسوله: هذا شيء مستغرب يتعجب منه.
" أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد "
أإذا متنا وصرنا ترابا, كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى ما كنا عليه؟ ذلك رجع بعيد الوقوع
" قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ "
قد علمنا ما تنقص الأرض وتُفني من أجسامهم, وعندنا كتاب محفوظ من التغيير والتبديل, بكل ما يجري عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
" بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج "
بل كذّب هؤلاء المشركون بالقرآن حين جاءهم, فهم في أمر مضطرب مختلط, لا يثبتون على شيء, ولا يستقر لهم قرار.
" أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج "
أغَفَلوا حين كفروا بالبعث, فلم ينظروا إلى السماء فوقهم, كيف بنيناها مستوية الأرجاء, ثابتة البناء, وزيناها بالنجوم, وما لها من شقوق وفتوق, فهي سليمة من التفاوت والعيوب؟
" والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج "
والأرض وسَّعْناها وفرشناها, وجعلنا فيها جبالا ثوابت; لئلا تميل بأهلها, وأنبتنا فيها من كل نوع حسن المنظر نافع, يسر ويبهج الناظر إليه.
" تبصرة وذكرى لكل عبد منيب "
خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الآيات العظيمة عبرة يُتبصر بها من عمى الجهل, وذكرى لكل عبد خاضع خائف وجل, رجاع إلى الله عز وجل.
" ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد "
ونزلنا من السماء مطرا كثير المنافع, فأنبتنا به بساتين كثيرة الأشجار, وحب الزرع المحصود.
" والنخل باسقات لها طلع نضيد "
وأنبتنا النخل طوالا, لها طلع متراكب بعضه فوق بعض.
" رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج "
أنبتنا ذلك رزقا للعباد يقتاتون به حسب حاجاتهم, وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة قد أجدبت وقحطت, فلا زرع فيها ولا نبات, كما أحيينا بذلك الماء الأرض الميتة نخرجكم يوم القيامة أحياء بعد الموت.
" كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود "
كذبت قبل هؤلاء المشركين من قريش قوم نوح وأصحاب البئر وثمود,
" وعاد وفرعون وإخوان لوط "
وعاد وفرعون وقوم لوط,
" وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد "
وأصحاب الأيكة قوم شعيب, وقوم تبع الحميري, كل هؤلاء الأقوام كذبوا رسلهم, فحق عليهم الوعيد الذي توعدهم الله به على كفرهم.
" أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد "
أفعجزنا عن ابتداع الخلق الأول الذي خلقناه ولم يكن شيئا, فنعجز عن إعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم؟ لا يعجزنا ذلك, بل نحن عليه قادرون, ولكنهم في حيرة وشك من أمر البعث والنشور.
" ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "
ولقد خلقنا الإنسان, ونعلم ما تحدث به نفسه, ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (وهو عرق في العنق متصل بالقلب).
" إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد "
حين يكتب الملكان المترصدان عن يمينه وعن شماله أعماله.
فالذي عن اليمين يكتب الحسنات, والذي عن الشمال يكتب السيئات. " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد "
ما يلفظ من قول فيتكلم به إلا لديه مَلَك يرقب قوله, ويكتبه, وهو مَلَك حاضر مُعَدّ لذلك.
" وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد "
وجاءت شدة الموت وغمرته بالحق الذي لا مرد له ولا مناص, ذلك ما كنت منه - أيها الإنسان - تهرب وتروغ.
" ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد "
ونُفخ في (القرن) نفخة البعث الثانية, ذلك النفخ في يوم وقوع الوعيد الذي توعد الله به الكفار.
" وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد "
وجاءت كل نفس معها مَلَكان, أحدهما يسوقها إلى المحشر, والآخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر.
" لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد "
لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الإنسان, فكشفنا عنك غطاءك الذي غطى قلبك, فزالت الغفلة عنك, فبصرك اليوم فيما تشهد قوي شديد.
" وقال قرينه هذا ما لدي عتيد "
وقال المَلَك للكاتب الشهيد عليه: هذا ما عندي من ديوان عمله, وهو لدي معد محفوظ حاضر.
" ألقيا في جهنم كل كفار عنيد "
يقول الله للمَلَكين السائق والشهيد بعد أن يفصل بين الخلائق: ألقيا في جهنم كل جاحد لوحدانية الله كثير الكفر والتكذيب معاند للحق,
" مناع للخير معتد مريب "
مناع لأداء ما عليه من الحقوق في ماله, معتد على عباد الله وعلى حدوده, شاك في وعده ووعيده,
" الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد "
الذي أشرك بالله, فعبد معه معبودا آخر من خلقه, فألقياه في عذاب جهنم الشديد.
" قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد "
قال شيطانه الذي كان معه في الدنيا: ربنا ما أضللته, ولكن كان في طريق بعيد عن سبيل الهدى.
" قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد "
قال الله تعالى: لا تختصموا لدي اليوم في موقف الجزاء والحساب; إذ لا فائدة من ذلك, وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني.
" ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد "
ما يُغيَّر القول لدي, ولست أعذب أحدا بذنب أحد, فلا أعذب أحدا إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
" يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد "
اذكر - يا محمد - لقومك يوم نقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وتقول جهنم: هل من زيادة من الجن والإنس؟ فيضع الرب - جل جلاله - قدمه فيها, فينزوي بعضها على بعض, وتقول: قط, فط.
" وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد "
وقُرِّبت الجنة للمتقين مكانا غير بعيد منهم, فهم يشاهدونها زيادة في المسرة لهم.
" هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ "
يقال لهم: هذا الذي كنتم توعدون به - أيها المتقون - لكل تائب من ذنوبه, حافظ لكل ما قربه إلى ربه, من الفرائض والطاعات,
" من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب "
من خاف الله في الدنيا ولقيه يوم القيامة بقلب تائب من ذنوبه.
" ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود "
ويقال لهؤلاء المؤمنين: ادخلوا الجنة دخولا مقرونا بالسلامة من الآفات والشرور, مأمونا فيه جميع المكاره, ذلك هو يوم الخلود بلا انقطاع.
" لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد "
لهؤلاء المؤمنين في الجنة ما يريدون, ولدينا على ما أعطيناهم زيادة نعيم, أعظمه النظر إلى وجه الله الكريم.
" وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص "
وأهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش أمما كثيرة, كانوا أشد منهم قوة وسطوة, فطوَّفوا في البلاد وعمَّروا ودمَّروا فيها, هل من مهرب من عذاب الله حين جاءهم؟
" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد "
إن في إهلاك القرون الماضية لعبرة لمن كان له قلب يعقل به, أو أصغى السمع, وهو حاضر بقلبه, غير غافل ولا ساه.
" ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب "
ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات في ستة أيام, وما أصابنا من ذلك الخلق تعب ولا نَصَب.
وفي هذه القدرة العظيمة دليل على قدرته سبحانه - على إحياء الموتى من باب أولى. " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب "
فاصبر - يا محمد - على ما يقوله المكذبون, فإن الله لهم بالمرصاد, وصل لربك حامدا له صلاة الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب,
" ومن الليل فسبحه وأدبار السجود "
وصل من الليل, وسبح بحمد ربك عقب الصلوات.
" واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب "
واستمع - يا محمد - يوم ينادي المَلَك بنفخه في (القرن) من مكان قريب,
" يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج "
يوم يسمعون صيحة البعث بالحق الذي لا شك فيه ولا امتراء, ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
" إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير "
إنا نحن نحيي الخلق ونميتهم في الدنيا, وإلينا مصيرهم جميعا يوم القيامة للحساب والجزاء,
" يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير "
يوم تتصدع الأرض عن الموتى المقبورين بها, فيخرجون مسرعين إلى الداعي, ذلك الجمع في موقف الحساب علينا سهل يسير.
" نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد "
نحن أعلم بما يقول هؤلاء المشركون من افتراء على الله وتكذيب بآياته, وما أنت - يا محمد - عليهم بمسلَّط; لتجبرهم على الإسلام, وإنما بُعِثْتُ مبلِّغا, فذكِّر بالقرآن من يخشى وعيدي; لأن من لا يخاف الوعيد لا يذَّكر.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق