مقال نشر بالعدد الثاني من مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية، ص 71 من إعداد الباحث فـؤاد طوهـارة / أستاذ مساعد كلية الآداب و العلوم الإنسانية ـ قسم التاريخ والآثار ـ جامعة 08 ماي 1945 ولاية قالمـة ( الجزائـر )
للإطلاع على العدد كاملا اضغط على الغلاف:
الملخص :
تتناول هذه الدراسة البحثية موضوعا تاريخيا في شقه الاقتصادي بعنوان : « النشاط الاقتصادي في تلمسان خلال العصر الزياني في الفترة المحددة ما بين ( 7 – 9هـ /13 – 15م) » من خلال ما أوردته كتب الرحلة والجغرافيا كمادة مصدرية ، وما أضافته كتب النوازل الفقهية من تفسيرات للواقع الاقتصادي المساير للحياة الاجتماعية وفق ماتنص عليه الشريعة ويقره العرف السائد ، في ثلاثة مباحث رئيسية : تناولت في المبحث الأول النشاط الزراعي كقطاع رئيسي ، موضحا من خلاله بعض أنواع الأراضي الزراعية المنتشرة في المغرب الأوسط خلال الفترة المحددة ، مع ذكر أهم الطرق و النّظم المتعلّقة باستغلال الأرض في مراحلها المختلفة ، ومحاولة استقراء نوعية وكمّية الإنتاج في الدّولة الزيّانيّة ، أما المبحث الثاني فجعلته لأهم الحرف والصّنائع المنتشرة في أوساط المجتمع الزيّاني ، فرغم بساطتها وقلة مردوديتها ، إلا أنها شكلت القاعدة الإنتاجية للمدينة ، بما كان يقدّمه الحرفيون والصناع من دور بارز في تنشيط الحركة التجارية ، داخل وخارج أسواق الدولة ، وأنهيت هذه الدراسة بالحديث عن الحركة التّجارية في الدّولة الزيّانيّة كعنوان رئيسي ، حيث تأكد جليا مدى ارتباط النشاط التجاري بوضعية الأسواق وتنظيماتها في هذا العهد، إلى جانب ظاهرة الرّقابة ونظام التسعير، التي سايرت هذا الحركة ضمانًا للأداء الجيد لفئة التّجار، وحرصا على الحضور الدائم للسلطة في مختلف مراحل البيع والشراء ، رغم وجود من هو مؤيد ومعارض للفكرة .
الكلمات المفتاحية : النشاط الاقتصادي ، الاقتصاد الزياني ، الزراعة والصناعة في المغرب الأوسط ، الحركة التجارية في تلمسان خلال العصر الزياني .
المقدمـة :
على الرغم من تزايد العناية خلال السنوات الأخيرة بالدراسات الاقتصادية والاجتماعية للغرب الإسلامي عامة والمغرب الأوسط على وجه الخصوص ، إلا أن الكثير من القضايا لاتزال محل بحث و نقاش ، نظرا لشح المادة المصدرية وقلة الدراسات الحديثة بقدر يسمح بالتتبع والتحليل والمقارنة .
يتناول هذا العمل « دراسة اقتصادية للمغرب الأوسط خلال العصر الزياني في الفترة المحددة مابين ( 7– 9هـ /13 – 15م) » حسب ما أوردته كتب الرحلة ، النوازل والجغرافيا كمادة مصدرية للواقع الاقتصادي من خلال مبحثين رئيسيين :
المبحث الأول : جعلته بعنوان النشاط الزراعي كقطاع رئيسي ، حاولت من خلاله أن أقف على ذكر بعض أنواع الأراضي الزراعية المنتشرة في المغرب الأوسط خلال الفترة المحددة ، موضّحًا في الوقت ذاته أهم الطرق و النّظم المتعلّقة باستغلال الأرض في مراحلها المختلفة (المزارعة، المغارسة ، المساقاة ) ، و نظرا لجودة الأراضي وخصوبتها ، وتنوّع مصادر وأساليب السّقي ، وعناية أهل تلمسان بالنشاط الزراعي ، حاولت أن أستقرأ نوعية وكمّية الإنتاج في الدّولة الزيّانيّة ، فمنطقة تلمسان وما جاورها من الأراضي التي شهدت نشاطا مكثّفًا يتّفق أغلب الجغرافيين على التّنويه بأثاره مع زيادة في الإنتاج .
المبحث الثاني : بعنوان أهم الحرف والصّنائع في المجتمع الزيّاني ، حيث شكلت هذه الأنشطة القاعدة الإنتاجية للمدينة ، بما كان يقدّمه الحرفيون والصناع من دور بارز في تنشيط الحياة الاقتصادية ، وذلك باستغلال وتحويل الموادّ الأوّلية فلاحيه كانت أو معدنيّة إلى بضائع استهلاكيّة قابلة للتّسويق .
المبحث الثالث : خصصته للحديث عن الحركة التّجارية في الدّولة الزيّانيّة التي ارتبطت أساسًا بوضعية الأسواق وتنظيماتها في هذا العهد، إلى جانب ظاهرة الرّقابة ونظام التسعير، كلها قضايا ذات صلّة بحياة المجتمع وتقاليده ، شكلت ضمانًا للسّير الحسن للنّشاط التّجاري رغم من هو مؤيد ومعارض للفكرة .
المبحث الأول : النشاط الزراعي :
أولا : بعض أنواع الأراضي في المغرب الأوسط
1- أراضي الإقطاع :
أراضي ملك للدّولة ، ولايحقّ التّصرف فيها إلاّ من قبل السّلطان ، يجيز إقطاعها لمن يشاء من خلال تفويض السّلطة لشخص أو لجماعة على رقعة محدّدة ، ثم توسّع المفهوم ليشمل جباية الأعشار ، واستغلال الأراضي الفلاحيّة و استخلاص فوائد الرّعي ، وقبض الرّسوم ، مقابل هذه الامتيازات كان المستفيد من الإقطاع يتحمّل مسؤوليتين: الأولى دفاعيّة ردعيّة يحارب بموجبها أعداء السّلطان ، والثانيّة جبائيّة يرغم بموجبها السّكّان على دفع مابذمّتهم للخزينة العامّة . (1)
ويوضّح ابن خلدون استفادة عدد من القبائل بهذا النّوع من الأراضي « نظام الإقطاع » بقوله : « وانبسطت أيدي العرب على الضّاحية وأقطعتهم الدّولة حتّى الأمصار وألقاب الجباية ومختصّ الملك … وقاسموهم في جبايات الأمصار بالإقطاع ريفًا وصحراء وتلولاً وجريدًا . » (2) وأوّل من عمل بنظام الإقطاع في دولة بني عبد الواد هو السّلطان يغمراسن بن زيّان (633 – 681 هـ / 1235– 1282 م ) مؤسّس الدّولة ، حيث اقتطع مشايخ قبيلة سويد العامريّة بلاد البطحاء وسيرات وهوّارة (3) وتبعه في ذلك التّقليد بقيّة سلاطين بني زيّان ، هذا وقد طغى نظام الإقطاع بصفة خاصّة خلال عهد السّلطان أبي حمّو موسى الثّاني (760 – 791 هـ / 1359– 1389م ) حيث أصبحت الدّولة عبارة عن إقطاعات للقبائل والأشخاص (4) سواء كانوا من الأسرة الحاكمة أو من أنصارها (5) ، وإذا كانت الدّولة الزيّانية قد وجدت في قوّة القبائل وولاء شيوخها سببا كافيًا لمنحهم عددًا من الإقطاعات، فإنّّها انتهجت سياسة مماثلة إزاء العلماء والفقهاء بسبب نفوذهم الرّوحي وقوّة تأثيرهم على الرعيّة ويتّضح ذلك من خلال اهتمامها ببعض رؤساء الطّوائف الصّوفيّة ومنحهم أراضي واسعة وعيون من الماء (6) ، و من الذين استفادوا من هذا الإقطاع ، فقهاء تلمسان أمثال التنّسي والعقبانيّين ، فالتنّسي أقطعه يغمراسن أرضًا للانتفاع بها بعد قدومه من تنس ، ثم بعد وفاته انتقلت إلى أبناء الإمام وهم من مدينة – برشك – في عهد السّلطان أبي حمّو موسى الأوّل ( 708 – 718هـ/ 1308-1318 م ) . (7)
2- أراضي الظّهير :
ويطلق عليها كذلك اسم « المزيّة الجبائيّة والعقّاريّة » حيث ترخّص الدّولة للمنتفعين استخلاص الضّرائب الموظّفة على السّكّان المستقرّين لفائدتهم ، وأحيانًا الضّرائب الموظّفة على قبائل الأعراب الرّحّل الأضعف منهم ، وأحيانًا على أراضي المراعي والضيعات الزّراعيّة .(8) ويعدّ منح أراضي الظّهير « إقطاع منفعة لا إقطاع رقبة » (9) يحقّ الانتفاع بها وبثمارها دون تملّكها و إذا أقطعت لشخص ما ، وتوفيّ أقطعت لغيره ولاتورّث عنه ، فهي منفعة لصاحب الإقطاع فحسب دون ورثته، و بشأن ذلك أورد الونشريسي مسألة فقهية جاء فيّها : « وسئل ابن عرفة عن الأرض التي تقطع للأعراب وغيرهم من النّاس هل تملّك ملكًا تامًا أم لا ؟ فأجاب : بأنّ إقطاعها إنّما هو إقطاع انتفاع لا ملك » (10) ، و يضيف قائلاً : « وسئل عمّن أقطعت له ثمّ مات وخلّف ورثته فجرد ظهيرها من إمام آخر ». (11)
و تبعًا لذلك فقد كان الإقطاع يكتسي عمليّا في كثير من الحالات صبغة وراثيّة ، بل كان يتّجه نحو التحوّل إلى ملكيّة تامّة ومطلقة ، وقد كان الفقهاء يحتجّون في كلّ مناسبة ضّد هذا التّوجّه ، فحتىّ بعد مرور مدة طويلة على حيازة الإقطاع ، كانوا يرفضون تمكين « أرباب الظّهائر »من حقّ التّصّرف في أرضهم كأنّها ملك خاصّ ، كما كانوا يحجرون عليهم تحبيسها مذكّرين بأنّها « ملك رقبة ». (12)ويذكر الونشريسي نوعا آخر من أراضي الظّهير ، يمنحها السّلطان لأفراد نظير خدمات قدّموها للدّولة ، تتميّز بأنّها ملكيّة خاصّة ، يجوز بيعها وتوارثها ، وقد أطلق عليها اسم « الأرض القانونيّة ». (13)
3- أراضي الأوقاف :
هي الأراضي التي يتنازل عنها صاحبها،أو السّلطان إذا كان الأمر يتعلّق بأراضي الدّولة فعليّا – وهو مازال على قيد الحياة – عن حقّ الانتفاع بها لفائدة الفقراء والمشاريع الخيريّة ، ويمكن أن يكون المنتفعون الوسطاء أشخاصًا مهما كانوا ، أو وارثيهم حسب نظام محدّد من طرف المحبّس . (14) وقد شكّل هذا النّوع من الأراضي انشارًا كبيرًا في المغرب الأوسط بفعل تزايد درجة التّأثير الدّينيّ في المجتمع الزيّاني ، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بعائداتها المالية التي تصرف على المرافق العامّة كالمساجد والمدارس والزّوايا ،(15) ويتكلّف بإدارة وتسيّير هذه الأراضي مجموعة من الموظّفين يأتي في مقدّمتهم «النّاظر» الذي يسهر على ضمان كراء واستغلال هذه الأراضي ، ومراقبتها على الدّوام ، وتحصيل ثمارها وجمع أمولها ، ويؤكّد هذه الوظيفة صاحب” المعيار” بقوله: « وسئل عن ناظر الأحباس هل يجب عليه تفقدّها أم لا ؟ فأجاب: يطوف النّاظر الحبس ، وشهوده ، وكتّابه ، وقبّاضه على ريع الأحباس أكيد ضروري لابدّ منه وهو واجب على النّاظر فيها لا يحلّ له تركه إذ لا يتبيّن مقدار غلاّتها ولا عامرها ولا غامرها إلاّ بذلك ، وما ضاع كثير من الأحباس إلاّ بإهمال ذلك .» (16)
4- أراضي الأموات : وهي الأراضي البور التي يقطعها السّلطان لمن يحييها ويزرعها لعامّة المسلمين ، فتصبح ملكاً له ويجوز له بيعها (17) ، وقد وردت إشارة في إحدى النّوازل الفقهيّة تؤكّد ذلك ، جاء فيها : « جوابكم في مسألة رجل وجد أرضًا … من العُبّاد مرّت عليها سنون وهي دائرة لايعلم لها مالك ، وافتتحها وخدمها وغرسها منذ أزيد من خمسين عامًا ، ثم باع ذلك إلى رجل آخر. » (18)
ثانيا : نظم استغلال الأراضي :
يستند نظام استغلال الأراضي الزّراعيّة والاستفادة من محصولها إلى وثيقة عقد ، تبرم بين صاحب الأرض على اعتباره مالكا لها ، وبين العامل عليها الذي يكون طرفًا رئيسًا في الشّركة المبرمة حسب مانصّت عليه وثيقة العقد من شروط وأحكام تتّصل بنظم الاستغلال وإدارة الأرض وتوزيع المحصول .(19)
تشير إحدى النّوازل والفتاوى الفقهيّة (20) إلى بعض النّظم المتعلّقة باستغلال الأرض المنتشرة في المغرب الأوسط منها : المزارعة، والمغارسة ، و المساقاة .
1- المزارعة:
تكون بين طرفين وفي موضع معيّن ولمدّة زمنيّة محدّدة ، على أن يتّم استغلالها حسب ماورد في وثيقة العقد المبرمة بين صاحب الأرض وبين المزارع ، بعد أن قوّما كراء الأرض وعمل المزارع ، فيخرج ربّ الأرض نصف ما يبذر فيها من الحبوب ، ويخرج المزارع النّصف الآخر ويخلطا الجميع ، ويتولىّ المزارع تعمير الأرض بزرّيعته ، وإجارته ، وأزواجه وآلته ، وعليه حصاده وانتقاله من الأرض المذكورة ، ودرسه حتى يصير حبًّا (21) ويتّم توزيع المحصول حسب ماتمّ الاتّفاق عليه في وثيقة العقد (مسألة شركة ، مسألة إيجار) ، فإن كانت إجارة كان لصاحب الأرض ثلاثة أرباع ، ولصاحب العمل الرّبع ، وإن كانت شركة تمّت مناصفةً ، وإن كان القائم عليها خمّاسا ، حصل على خمس المحصول ،والأربعة الباقية لصاحب الأرض .(22)
2- المغارسة :
وهي أن يدفع المالك أرضه إلى شخص آخر ، ليغرسها صنفًا من الشّجر أو أصنافًا يسمّيها، فمتى أثمرت وأطعمت كان ذلك بينهما مناصفةً ، وعلى العامل الغرس والحفر و الحرز والنّقش إلى ظهور صلاحها وبدء طيبها ، ولاتجوز المغارسة في : بقل و لازرع و لابصل (23) ويمنع أيضًا على صاحب الأرض من زراعة الأرض المغروسة ،لأنّه ضرر بالغرس إلاّ أن تكون هناك عادة . (24)
3- المساقاة :
تكون بين طرفين شريكين ، أو بين ربّ الأرض وبين العامل عليها كأجير لمدّة زمنيّة محدّدة وحسب نوع الزرع أو الغرس، وهي ثلاثة أصناف : صنف أصله ثابت ، تنقطع ثمرته فالمساقاة في ذلك جائزة في كلّ وقت ظهرت ثمرته أم لا ، وصنف ثان إذا حدثت ثمرته لم يبق له أصل كالزّرع والمقثأة ؛ فالمساقاة في ذلك جائزة عند الضّرورة ، وصنف ثالث لاتجوز مساقاته إذا لم ينبت وكذلك إذا نبت لأنّه لا أمد له ، كالبقول ، والموز ، والقضب ، وكل مايجذّ ويخلف (25)، ولايجوز حسب الإمام مالك مساقاة : ماجاز بيعه ، أو جاز كراؤه ، لأنّه يترك في الأرض كراءً معلومًا ، ويرجع إلى غرز الجزء ممّا تنبت الأرض ويدع في الثمرة ثمنا معلومًا ، ويرجع إلى المساقاة فيصير أجره على جذّها ومؤنتها . (26)
أمّا عن مصادر السّقاية في المغرب الأوسط فهي متعدّدة ، وهو ماذهب إليه حسن الوزّان عند وصفه مدينة تلمسان بقوله :
« وفي المدينة عدّة سقايات » (27) وحصرها ابن حوقل من خلال وصفه لمدينة برشك في الأنهار والآبار بقوله « ولها مياه جارية وآبار معين » (28) وحدّدها الونشريسي بشكل دقيق في : الأمطار ، والعيون ، والآبار ، و الأودية ، والصّهاريج (29).
و يشير القلقشندي إلى ذلك بقوله : « وهي مدينة (تلمسان) في سفح جبل … ماؤها مجلوب من عين على ستّة أميال منها ، وفي خارجها أنهار وأشجار ويستدير بقبليها ، وشرقيها نهر يصبّ في بركة عظيمة من آثار الأوّل ، ويسمع لوقعه خرير على مسافة ، ثم يصبّ في نهر آخر ، بعدما يمرّ على البساتين ، ثم يصبّ في البحر . » (30) ، أما عن نظام الريّ في تلمسان ، فيوصف بالتّنظيم الدّقيق للغاية ، بحيث كان المزارعون يتعاونون فيما بينهم على سقاية الأرض على نحو بلغ الغاية في التّرتيب ، فقد كان بتلمسان عين ماء مشتركة بين أهلها يسقون منها بساتينهم ومزارعهم بحصص دورية ، وبأوقات معلومة وهو ما توضّحه هذه النّازلة :
« وسئلت من قبل القاضي بتلمسان أبي زكرياء يحي بن عبد الله بن أبي البركات : سيّدي رضي الله عنكم جوابكم في عين ماء مشتركة بين أناس يسقون منها جنّاتهم ، فمنهم من حظّه نهارًا ، ومنهم من حظّه ليلاً، ومنهم من حظّه في غدوة إلى الزّوال ، ومنهم من حظّه من الزّوال إلى العصر ، واستمرت العادة فيما ينيف على الخمسين عامًا ، فمنهم من كان يروي أرضه نهارًا ، ومنهم من يرويها ليلاً ، وفئة ثالثة كانت تروي من الغداة إلى الزّوال ، وفئة أخرى تروي من الزّوال إلى العصر ، واستمروا يزاولون هذا الإجراء لسنوات طويلة تنيف على الخمسين عامًا. » (31)
ثالثا : الإنتاج الزّراعي :
لقد شكلت جودة الأراضي وخصوبتها (32) ، و تعدّد طرق ونظم استغلالها (33) ، وتنوّع مصادر المياه وأساليب السّقي(34) ، واعتناء سكّان تلمسان واهتمامهم بالنّشاط الزّراعي (35) ، عوامل مهمّة في تفسير نوعية وكمّية الإنتاج في الدّولة الزيّانيّة ، فمنطقة تلمسان وماجاورها من الأراضي شهدت نشاطا مكثّفًا يتّفق أغلب الجغرافيين على التّنويه بأثاره مع زيادة في الإنتاج .
1- الخضر والفواكه :
تتوفّر زراعة الخضر والفواكه في الأراضي الخصبة المجاورة للأودية والعيون ، في شكل مزارع و بساتين وجنان (36) ، حيث تشير كتب الجغرافيا إلى أنواع عدّة من الخضر منها : الجزر واللّوبيا والكرنب والبصل و الخيار والقثاء واللّفت والباذنجان والقرع وقصب السّكر ، والقنبيط والخّس والهليون (37) ، أمّا الفواكه فهي على أنواع وأذواق مختلفة مثل : العنب والتّين والسّفرجل والتّفاح والكمثري والزّعرور والخوخ والمشمش والتّوت واللّيمون والجوز والنّخيل وغيرها . (38) وعن هذه المحاصيل يصف حسن الوزّان تلمسان بقوله: « وفي المدينة عدّة سقايات … حيث الكروم المغروسة الممتازة تنتج أعنابًا من كلّ لون ، طيّبة المذاق جدًّا ، وأنواع الكرز الكثيرة التي لم أر لها مثيلاً في جهة أخرى ، والتّين الشّديد الحلاّوة ، وهو أسود غليظ طويل جدًّا ، يجفّف ليؤكل في الشّتاء ، والخوخ والجوز واللّوز والبطّيخ والخيار وغيرها من الفواكه المختلفة ». (39) ويشير يحي ابن خلدون إلى بعض المنتوجات الزّراعية التي تثمرها أرض تلمسان بقوله : « ويوجد بخارجها…الحدائق الغلّب بما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين من فواكه الرمّان ، والزّيتون ، والتّين …وتنصبّ إليها من أعلى جبالها أنهار من ماء غير آسن …ويسقي بساتينها خارجها ، ومغارس الشّجر، ومنابت الحبّ ». (40) وأمّا تيهرت وتنّس وشرشال ومازونة ومليانة والبطحاء ووهران وغيرها من أراضي الدولة الزيّانية ، فكانت لاتختلف عن تلمسان ، بها فواكه حسنة مختلف ألوانها « والأراضي جيّدة تعطي غلّةً حسنة ». (41) ويصف القلقشندي فواكه تيهرت بقوله : « وبها البساتين الكثيرة المونقة والفواكه الحسنة ، والسّفرجل الذي ليس له طعم أو شمّ ». (42) ويضيف ابن حوقل ما تنتجه مدينة برشك بقوله :
« ولها مياه جارية وأبار معين ، وبها فواكه حسنة غزيرة وسفرجل معنّق ،كالقرع الصّغار وهو طريف وأعناب » (43) ، أمّا النّاحية الممتدّة مابين مدينة تنّس والمسيلة فكانت هي الأخرى تنتج ما لذّ وطاب من الخضر والفواكه والتّوابل« ومن مدينة تنّس إلى المسيلة قرى كثيرة عبر مراحل …لها كروم ذوات سوان ، يزرعون عليها البصل والسّهدانج والحنّاء والكمّون ، ولها كروم كثيرة ومعظمها على نهر الشّلف ، ومن التنّس إلى الشلّف مرحلتان ». (44)
2- الحبوب ومحاصيل أخرى :
تتّم زراعة الحبوب في الأراضي الخصبة خاصّة السّهليّة منها ، كسهل تسّالة ، وسهل وادي الشلّف ، وسهل تيارت وسهول متّيجة ، بالإضافة إلى السّهول السّاحليّة الأخرى كسهل تنّس (الظّهرة) ، ووهران، وهنين ، والأراضي المحيطة بتلمسان ومن أهمّ أنواع الحبوب : القمح ، الشّعير ، الحنطة وغيرها . (45)
وحول نوعيّة وكميّة إنتاج القمح يشير حسن الوزّان إلى سهول تسّالة المجاورة لتلمسان بقوله : « أمّا مدينة تسّالة فتقع في سهل كبير يمتدّ على مسافة عشرين ميلاً ، ينبت قمحًا جيّدا جميل اللّون غليظ الحبّ يمكنه وحده أن يزوّد تلمسان بما تحتاجه من حبوب »وعن مدينة تنّس يقول : « وأمّا إقليمها فينتج الكثير من القمح »ويذكر أيضًا سهل البطحاء « في سهل فسيح ينبت فيه القمح بكثرة ، وكانت تحقّق لملك تلمسان دخلا يقدّر بعشرين ألف مثقال »(46) ، أمّا حوض الشّلف وماجاوره من الأراضي الخصبة كسهول مليانة وبرشك فتنتج إلى جانب القمح ، الشّعير والحنطة والكتّان ، هذا إلى جانب المناطق الجبلية كجبل متغارة ، وولهاصة وبني يزناسن ومطغرة التي لا تنتج إلاّ الشّعير . (47) ويذكر الوزّان مدينة برشك بقوله:
« وتنتج البادية الجميلة من حولها كثيرا من الكتّان والشّعير »(48) ، وإلى جانب هذه المحاصيل تشير بعض المصادر الفقهيّة إلى زراعة القطن والقطاني والذّرة والمقاتي (49) فالقطن والكتّان من المحاصيل الزراعيّة الهامّة في المغرب الأوسط خاصّة في الصّناعات النّسيجيّة ، ممّا يفسّر انتشاره في عدّة مناطق ، وهو مايؤكّده حسن الوزّان بشأن سكّان مدينة ندرومة بقوله :
« ويتنجون على الخصوص أقمشة القطن لأنّه ينبت بكثرة في النّاحية ». (50) .
3 – نظام الرّعي وتربية الماشية :
تشير إحدى الدّراسات الحديثة (51) إلى أنّ أراضي الدّولة الزيّانيّة كانت في فترة من فترات تاريخها مرتعا ومرعى لمختلف الحيوانات والماشية خاصّة الأغنام والأبقار والإبل والخيول والحمير ، وتزاول من طرف القبائل التي
توجد مضاربها ضمن محيط الدّولة .
ويصف ابن خلدون الحياة الرّعوية لبعض القبائل ضمن نطاق المغرب الأوسط بقوله : « ويضعن أهل العزّ منهم والغلبة لانتجاع المراعي ، فيما قرب من الرّحلة ، لايتجاوزون فيها الرّيف إلى الصّحراء والقفار الأملس ومكاسبهم الشّاة والبقر والخيل …وربّما كانت الإبل من مكاسب أهل النّجعة منهم شأن العرب ، ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السّائمة ». (52)
ومن القبائل التي اشتهرت بتربية الماشية : قبائل بني توجين ، ومغراوة خاصّة في المرتفعات الجبليّة ، أمّا القبائل النّاجعة فأغلب حيواناتهم الإبل ، بينما انحصرت تربية الخيول في المناطق السّهلية والهضاب . (53)
وكثرت تربية الأبقار في المغرب الأوسط ، حيث المراعي والأعشاب ، والأراضي المستوية في الشّمال خاصّة في مدينة تيهرت وأراضي مطماطة ، بينما اشتهرت تربية الأغنام والماعز في الهوامش الشّمالية للصّحراء في الشّتاء ، و السّفوح الجنوبيّة في الصّيف . (54) ويذكر ابن حوقل مواضع مختلفة من أراضي الدّولة الزّيانيّة ، ارتبط اسمها بتربية الماشية ، فيصف تيهرت بقوله :
« وهي أحد معادن الدّواب والماشية والغنم والبغال والبراذين الفراهية ، ويكثر عندهم العسل والسّمن »، وهي إشارة إلى تربية النّحل ، ويشير إلى مدينة وهران وماجاورها بقوله : « وأكثر أموالهم الماشية ، ولهم منها الكثير » (55) ، وينفرد الوزّان بوصف دقيق للحياة الرّعوية لسكّان إقليم بني راشد التي لا تبعد كثيراً عن تيهرت بقوله : « يقيمون في البادية ويعيشون تحت الخيام معتنين بماشيتهم ، ولهم عدد وافر من الجمال والخيل »وأمّا عن البطحاء التي لاتبتعد كثيرا عن تلمسان ، فيصف أحد الرّعاة بقوله : « وتكاثر بقره وخيله وغنمه إلى حدّ أصبح هو بنفسه لايعرف عدد رؤوس تلك الماشية …وأنّ له زهاء خمسمائة من الخيل ، وعشرة آلاف من الغنم ، وألفين من البقر » . (56)
المبحث الثاني : بعض أنواع الصّنائع والحرف
مثّلت بعض الحرف والصّنائع في المجتمع الزيّاني القاعدة الإنتاجية للمدينة ، بما كان يقدّمه الحرفيون من دور بارز في تنشيط الحياة الاقتصادية ، وذلك بإستغلال وتحويل الموادّ الأوّلية فلاحيّة كانت أو معدنيّة إلى بضائع استهلاكيّة قابلة للتّسويق ، ومن أهمّ هذه الصنائع :
1- الصّناعات النّسيجيّة :
تعتمد هذه الصّناعة على موارد مختلفة كالصّوف ، و القطن، والكتّان ، والحرير والجلود المدبوغة على اعتبارها مادّة أوّليّة متوفّرة بشكل كبير في أراضي الدّولة الزيّانية ، وتشمل بوجه خاصّ : حياكة الملابس والزّرابي والحنابل، وصناعة الخيم و الأحذية والسّروج والعمائم والأحزمة وغيرها . (57)
وقد أثنى يحي ابن خلدون على هذه الصّناعة بتلمسان بقوله : « غالب تكسيبهم الفلاحة وحوك الصّوف ، يتغايون في عمل أثوابه الرّقاق ، فتلقى الكساء ، والبرنوس عندهم من ثماني أواقي ، والأحرام من خمس ، وبذلك عرفوا في القديم والحادث ،
ومن لدنهم يجلب إلى الأمصار شرقا وغربا » . (58)
ونوّه الزّهري بمكانة تلمسان في صناعة المنسوجات الصّوفيّة بقوله : « وهي دار مملكة يعمل فيها من الصّوف كلّ شيء بديع من المحرّرات والأبدان وأحاريم الصّوف والسّفاسير والحنابل المكلكلة وغير ذلك وهذا من بديع ماخصّ به أهلها من جميل صنعهم …ومنها يجلب لقيط الصّوف والأسيلة لسروج الخيل إلى بلاد المغرب و بلاد الأندلس.» (59)
فقد كان أبو زيد عبد الرّحمن بن النّجّار من كبار أرباب الحرف بتلمسان يزاول حياكة الصّوف الرّفيع في درب شاكر ، وكان أغلب هذا الدّرب له ولخدّامه ، يقصده كبار التّجّار من المشرق والمغرب للاقتناء منها، وكان يجني من بيعه لهذا الصّوف ألف دينار في اليوم الواحد (60) وانفرد جورج مارسي بوصف دقيق لخياطة وتطريز السّروج بقوله : « إلاّ أنّ الفرسان المحتفظين بتذّوق السّروج الفاخرة قد يجدون بتلمسان طرّازين أكفّاء يقومون ببسط مشبك الزّخرف المزدوج في شكل أغصان ملتفّة بالسّلك الذّهبي أو الفضيّ على جلد أو قطيفة السّروج والعمائم والأحزمة » (61) ، وتشير كتب التّراجم إلى وجود ورشات حرفيّة يديرها أرباب الحرف بمساعدة مجموعة من الصّبيان ، يخضع من خلالها الصّبي لفترة معيّنة حتىّ يتعلّم الصّنعة، على أن تقدّم له أجرة لاتزيد عن نصف دينار كلّ شهر. (62)
2-الصّناعات الفخّارية والخشبيّة :
ارتبطت حرفة الفخّار بوجود عدد من الأفران المتخصّصة في صناعة الفخّار والخزف والقرميد ، بمدينة تلمسان وضواحيها ، خاصة بالقرب من باب العقبة ، و يشير جورج مارسي إلى تراجع هذه الحرفة عمّا كانت عليه من تطور وازدهار منذ زمن طويل مقارنة بحرف أخرى كالنّسيج (63) ،ومن المؤكّد أنّ هذه الصّناعة قد تأثرت بشكل كبير من خلال فئة الأندلسيين الذين أدخلوا معهم إلى بلاد المغرب الأوسط صناعات جديدة كصناعة الزّليج ذو الألوان المختلفة . (64)
كما أنّ عمارة المساجد وبناء القصور والبيوت في هذا العصر تركت أثارًا كبرى في تطوير الصّناعات الخشبيّة ، بما إحتاجته من أسقف ونوافذ وأبواب ومنابر ومقصورات وأثاث وتحف زخرفيّة ، وكانت السّقوف الخشبيّة تغشى بالقصدير والأصباغ الملّونة، والأبواب تغشى كلّها بالنّحاس الأصفر ، وكانت المنابر والمقصورات تزخرف بأشكال هندسيّة ونباتيّة ، وتطعم حشوات المنابر بالعاج والأبنوس والصّندل والعنّاب وأصناف الخشب العظيم . (65)
وقد برز كذلك في القرن(09 هـ / 15 م ) النّحت على الخشب بالنسبة إلى الأثاث والخزائن والصّناديق وأبواب المساجد ، ومن بين الآثار الدّالة على هذه المرحلة ثريّة مسجد تلمسان التي تعود إلى عهد يغمراسن بن زيّان (66) ، هذا إلى جانب النّحت على الجبس والزّخرفة والفسيفساء الفنيّة التي وجدت على سطوح الحجرات المبلّطة بالزّليج الملون ، وهو ماذهب إليه الحسن الوزّان في وصفه لمدينة هنين التي لايفصلها عن تلمسان إلاّ أربعة عشر ميلا بقوله : « ودورهم في غاية الجمال والزّخرفة …أرضها مبلّطة بالزّليج الملون ، وسفوح الحجرات مزيّنة بنفس الزّليج ، والجدران مكسوّة كلّها بالفسيفساء الفنيّة . » (67)
وتعد المدرسة التّاشفينيّة آية في الزّخرفة والجمال ، إذ يصفها جورج مارسي بقوله : « ولعب التّلبيس الخزفي في الزّخرفة دورًا هامًا … فجهّزت بالخزف محيطات الأبواب ورصف القاعات ، وتقدمت المصلى فسيفساء من المرمر تأطّرت بزخرفة ضفيريّة نباتيّة رقيقة. » (68)
3- الصّناعة المعدنيّة :
هي من بين الصّناعات التي أخذت إهتمامًا خاصًّا من قبل السّلطة الزيّانيّة لارتباطها بالحياة المدنيّة من جهة والحياة العسكريّة من جهة أخرى ، ويعود السّبب في تطورها إلى وفرة الموارد الأوليّة في محيط الدّولة وقربها من مناجم الذّهب والزّنك و الحديد بشكل خاص . (69)
شملت هذه الصّناعة الأسلحة التّقليديّة كالسّيوف ، والرّماح ، والدّرق ، والمجانيق ، والعرّادات ، والآلات المختلفة التي تستخدم في عمليات الحصار(70) ، كما استخدمت في مواضع مختلفة ، كمصاريع للأبواب ومقابض ومطارق لها ، إلى جانب بعض الأدوات البسيطة كالفؤوس والمحاريث والشّبابيك وغيرها . (71)
وارتبطت كذلك بسكّ العملة وصناعة النّقود من دنانير ودراهم ، بلغ عددها إثنان وثلاثون دينارًا ذهبيًّا في غاية الجودة والإتقان ، بما تحمله من أشكال هندسيّة ، وأقوال مأثورة لأسماء الملوك والسّلاطين ، وآيات من القرآن الكريم ، ومعلومات أخرى تفيد أنّها ضربت بمدينة تلمسان ، مما يؤكد وجود دار للسّكة. (72)
المبحث الثالث : النّظام التّجاري
أ ) تنظيم الأسواق وإدارتها :
إنّ الحديث عن الحركة التّجارية في الدّولة الزيّانيّة يرتبط أساسًا بوضعية الأسواق وتنظيماتها في هذا العهد ، حيث تمثّل الأسواق مركزًا للنّشاط التّجاري بصوره ومراحله المختلفة ، فالأسواق هي مرآة عاكسة لحياة المدينة الاقتصاديّة وعنوان نشاطها التّجاري والصّناعي بل والاجتماعي أيضًا ، فمنذ إنشاء المدن رتّبت أسواقها ، ودعمّت ببعض المنشآت وأصبح لها تنظيمات وقواعد معيّنة خاصة بعدما تولّت الدّولة الإشراف عليها . (73)
ويتّضح من خلال ذلك ، أنّ لكلّ سوق وقت محدّد لانعقاده ونوع معيّن من السّلع التي يختص بها ، حيث تشير بعض الدّراسات (74) إلى عدد من الأسواق الأسبوعية والموسميّة في البوادي والمدن :
كسوق سيدي بوجمعة الذي يعقد كل يوم أربعاء بمدينة تلمسان ، وسوق بني راشد الذي يعقد كل خميس ويباع فيه عدد وافر من الماشية والحبوب والزيت والعسل ، وكثير من المنسوجات وأشياء أخرى أقل قيمة ، كالحبال والسّروج والأعنّة وحاجيات الخيل ، كما وجد عدد آخر من الأسواق الحرفيّة مثل : سوق الخرّازين ، وسوق النّحاسيين ، وسوق العطّاريين ، وسوق الغزل والنّسيج ، وسوق الخضر والفواكه ، وسوق اللّحوم . (75) ، وتشير إحدى الأبحاث (76) إلى رواج بعض الأسواق المتخصّصة في بيع العبيد السّود ، في مدينة تلمسان لفئة التّجار الأجانب خاصّة الكاتالونيّين والبنادقة والميورقيّين ، إذ يشكّلون بضاعة مربحة لتعدّد مجالات استخدامهم .
ويتحكّم في إدارة وتسيّير هذه الأسواق ، فئات التّجار على اختلاف أصنافهم ورؤوس أموالهم ، إلى جانب فئات أخرى تتكفّل بنقل وحمل السّلع ، وآخرون يحدّدون الأسعار كوسطاء بين البائع والمشتري .
ويمكن أن نميّز بين صنفين من التّجار : تجّار صغار يزاولون تجارتهم بمفردهم ، وأغلب هؤلاء يكونون إمّا مستأجرين للدّكاكين والمتاجر، أو متجولين بين الشّوارع والأزقّة ، لاتزيد قيمة بضاعتهم عن مائتي دينار(77) وتجّار يتنقلّون بين المدن وأسواقها ، يشاركون التّجار الأجانب في البيع والشّراء ، ويوظّفون مابين مائتي دينار وخمسمائة ، وتجّار كبار يقومون برحلات نحو السّودان ودول أروبا ويحتكرون عددا من السّلع والبضائع .(78)
ولتنظيم حركة نقل السّلع والبضائع من مكان إلى آخر وجد الحمّالون ، الذين يزاولون مهامهم بترخيص من عامل المدينة ، ولهم أمين يفصل في نزاعاتهم ، كما وجد الدّلاّلون ( السّماسرة ) وهم عبارة عن وسطاء بين التّجار فيما يبتاعونه أو يبيعونه إلى المشتري ، حيث يحمل الدّلاّلون السّلعة من دكّان إلى آخر مبتغين فيها أعلى الأثمان . (79)
وتفيد إحدى النّوازل الفقهيّة ماكان يسببه الدّلاّلون من أضرار جسيمة للباعة والتّجار ، لأنّ المشتري كان يقوم « بتقليب السّلعة في حوانيتهم قاصدًا الإشتراء ، ويرى السّلعة في المناداة أقلّ ثمنًا من التي في الحوانيت …فيترك الإشتراء منهم ويميل إلى سلعة المناداة لدى الدّلاّلين ، وينتج عن ذلك عدم تسويق سلعهم إلا ّ في آخر النّهار ، ممّا يضرّ بمصالحهم ، لأنّ التّاجر أو البائع يسعى إلى بيع سلعته في أولّ النّهار ليشتري بثمنها سلعًا غيرها . » (80)
ب ) مراقبة الأسواق :
تعكس أهميّة الرّقابة المفروضة على الأسواق في الدّولة الزيّانيّة قضايا متعدّدة ذات صلّة بحياة المجتمع وتقاليده ضمانًا للسّير الحسن للنّشاط التّجاري ، ورغبة لوضع حدّ للسّلوكات الدّنيئة الصّادرة عن بعض الباعة والتّجار ومن ذلك : مراقبة المكايّيل والموازين التي كان يستخدمها التّجار في تعاملتهم اليوميّة لوضع حدّ لطرق الغشّ والتّدليس في بيع وشراء السّلع ، وتذكر بعض المصادر عددًا من وحدات الكيل التي يستخدمها أهل تلمسان ومدن المغرب الأوسط في تعاملاتهم منها : الصّاع وهو ما يعادل أربعة أمداد نبويّة، مع العلم أن الصّاع الشّرعي يساوي أربع حفنات (81) ، أمّا الوسق ويسمّى الصّحفة فيعادل ستّون صاعًا بالصّاع النّبوي بإجماع العلماء ، بصاع النّبي- صلّى الله عليه وسلّم – وهو مايعادل حفنة من الحبوب بكلتا اليدين مجتمعتين من ذوي يدين متوسطتين بين الصّغر والكبر (82) ، أمّا وحدة الوزن الشّائعة فكانت الرّطل ، وكلّ رطل يساوي ستة عشر أوقية ، بينما حدّدت وحدة الأوزان الكبيرة بالقنطار ، في حين كانت وحدة وزن الذّهب هي المثقال . (83)
ويذكر الونشريسي أنّ من الباعة والتّجار من كان يلجأ إلى الغشّ والتّحايل ، ومن ثمّة يتعرض للعقوبة من جانب المحتسب أو صاحب السّوق ، ومن أمثلة الغشّ في الأسواق : بيع الخبز ناقص الوزن ، وخلط العسل الجيّد بالرّدئ والزّيت القديم بالجديد ، ومزج اللّبن بالماء (84) ، و يضيف لنا العقباني عرضًا لسلوكات الجزّارين بتلمسان بقوله : « قلت : وكذا تقرّرت ببلدنا تلمسان أنّ مايبيعه الجزّار من اللّحم يدخل في وزنه شيئًا من الكرش والمصران على قدر شدّة الثّمن وقلّته . » (85) ومن الباعة من يخلط القمح الجيّد بالرّديء ويبيعه ، ناهيك عن الغشّ في الخبز ومبيعات أخرى . (86)
ومن أجل تفعيل الرّقابة على الأسواق وتأمينها ، أسند هذا الأمر لعدد من الأمناء و محتسبي الأسواق وقد اشترط في اختيارهم لهذا المنصب جملة من الشّروط حدّدها محمّد بن أحمد بن عبدون التّجيبي بقوله : « ويجب أن يكون المحتسب رجلاً عفيفًا ، خيّرًا ،ورعًا ، عالمًا ، غنيًّا ، نبيلاً، عارفًا بالأمور، محنّكًا ، فطنًا ، لايميل ولا يرتشي ، فتسقط هيبته ويستخّف به ولا يعبأ به ويتوبخ معه المقدّم له. » (87)
ويبدو أنّ حكّام الدّولة الزيّانيّة لم يتقيّدوا بهذه الشّروط في أواخر عهدهم ، وأصبحوا يعهدون بها لأناس عاديّين لا تتوفر فيهم الكفاءة اللاّزمة لممارسة هذه المهنة ، إذ تكشف كتب النّوازل المعاصرة لذلك عن انتشار الغشّ في الأسواق والتّلاعب بالمكايّيل والموازين ، وبالسّلع المعروضة في السّوق مقابل غضّ البصر من قبل ولاّة الأسواق وحصولهم على رشاوي ومنافع ماديّة من طرف التّجار وأصحاب الصّنائع .(88) ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ ، بسبب عجزهم عن محاربة ظاهرة اللّصوصيّة التي كانت منتشرة بكثرة داخل الأسواق مستهدفة بذلك فئة التّجار ، وروّاد الأسواق . (89)
ج ) نظام التّسعير في الأسواق :
شكّلت ظاهرة التّسعير في أسواق الدّولة الزيّانية جدلاً فقهيًّا بين مؤيّد ورافض للفكرة ، إذ تشير بعض النّوازل الفقهيّة إلى حرمة سياسة التّسعير ، لأنّه مظلمة في حقّ التّجار والباعة في الأسواق سيّما في أوقات الغلاء لأنّ ذلك مقدّر من الله ولا دخل للإنسان فيه (90) ، في حين رأى بعض الفقهاء أنّ التّسعير واجب ، خاصّة إذا تعمّد التّجار سياسة الغلاء في أوقات الشدّة بإخراج ماعندهم من البضائع المحتكرة ومضاعفة أثمانها ، فإنّهم يجبرون على الحطّ من السّعر والالتحاق بأسعار السّوق حتّى لايضرّ ذلك بعامة النّاس . (91)
ومن بين الذين كانوا يحثّون على العمل بنظام التّسعير في أسواق المغرب الأوسط العالم والفقيه: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني التلمساني بقوله : « قلت كان سيّدنا وشيخنا الجدّ الأقرب يقول : يتعيّن أن يكون التّسعير على أهل الأسواق في هذا الزّمن متّفقا عليه وتفقّدهم في كلّ لحظة فضلاً عن كلّ يوم لازم بما دانوا به من جميع المحضورات في البيع والابتياع ، ومن أخبث شرورهم وأشنع مرتكبات محذورهم أنّ الجالب إن أدركه سبب التعذّر ولو من وابل مطر أو شدّة وحل فإنّهم يعدّون ذلك عذرا لخلاء السّوق من المطعومات وغيرها ، إظهارًا منهم لفراغ ما بأيديهم من ذلك لتعذّر جلب الجالبين ومخازنهم به ملأى وما ذلك إلاّ من ترصدهما الحطيطة في السّعر لا من إخلائهم الأسواق ، فإذا حطّ لهم منه أوقية أخرجوا مختزنهم وباعوا منه الكثير مبادرة على إتيان المجلوب فيرخّص ما بأيديهم. » (92)
ويتّضح من خلال النّص أنّ العمل بنظام التّسعير كان سارياً في تلمسان ومدن المغرب الأوسط في (08 – 09 هـ / 14-15م ) حتّى لايتجاوز التّجار حدودهم ويترصدّون الظّروف المناسبة للمضاربة والمغالاة.
وبما أنّ قيمة الأسعار مسألة نسبيّة قد تزيد أو تنقص ، نظرًا للتّغيرات المفاجئة والظّروف المحيطة ، فقد تأكّدت ظاهرة الغلاء في أسعار المواد الغدائيّة سيّما في أوقات المجاعة التي اجتاحت تلمسان أكثر من مرّة ، وكان من بينها المجاعة التي حلّت بها مابين (698 – 707 هـ / 1299-1307م ) ، نتيجة الحصار المريني حيث نفذت الأقوات وفرغت المخازن من الطّعام وارتفعت الأسعار. (93)
ويقدّم لنا ابن خلدون وصفًا دقيقًا لهذا الوضع بقوله : « وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجوز حدود العوائد ، وعجز وجدهم عنه ، فكان ثمن مكيال القمح الذي يسمّونه البرشالة ويتبايعون به ، مقدارًا إثنا عشر رطلاً ونصف مثقالين ونصفا من الذّهب العين ، وثمن الشّخص الواحد من البقر ستّين مثقالا ، ومن الضّأن سبعة مثاقيل ونصفا ، وأثمان اللّحم من الجيّف الرّطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال ، ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكّتهم … والرّطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهمًا ، وهرّ الدّواجن بمثقال ونصف … والدّجاجة بثلاثين درهمًا ، والبيض الواحدة بستّة دراهم والعصافير كذلك ، والأوقيّة من الزّيت بإثني عشر درهما ، ومن السّمن بمثلها ومن الشّحم بعشرين ومن الفول بمثلها ، ومن الملح بعشرة ، ومن الحطب كذلك ، والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال ، ومن الخسّ بعشرين درهما ومن اللّفت بخمسة عشر درهما ، والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما ، والخيّار بثلاثة أثمان الدّينار والبطّيخ بثلاثين درهما ، والحبّة من التّين والإجّاص بدرهمين ، وأستهلك النّاس أموالهم وموجودهم ، وضاقت أحوالهم. » (94)
ويضيف حسن الوزّان في وصفه لهذه المجاعة بقوله : « ودام الحصار سبع سنوات وأستفحل الغلاء إلى أن بلغ ثمن كيلو روجيو من القمح ثلاثين مثقالا ، وسكورزو من الملح ثلاثة مثاقيل ، ورطل من اللّحم ربع مثقال ، فلم يطق السّكان تحمّل مثل هذه المجاعة. » (95)
وللتّخفيف من حدّة الغلاء في الغذاء خاصّة أيّام المحن والشدّائد ، منع الفقهاء والقضاة احتكّار السّلع من قبل التّجار، وقاموا بحثّهم على إخراج القمح والشّعير وسائر الأطعمة المدّخرة وبيعها في الأسواق لحاجة النّاس إليها بسعر معقول ، كما أنّهم شدّدوا العقاب على البعض منهم إذا ماتبيّن امتناعهم عن إخراج سلعهم لبيعها ، وإن لم يفعلوا تخرج بضاعتهم وتباع قصرا ويعطى لهم رؤوس أموالهم والفائدة تفرق على الضّعفاء تأدّيبًا لهم ، وإن لم ينتهوا عن ذلك كان الضّرب والسّجن لهم ، كما شدّدوا النّكير على متلقي السّلع في الفنادق، وألزموهم بإنزالها إلى الأسواق ليدركها الضّعيف والقويّ (96) ، وفضلا عن ذلك فقد أجاز فقهاء المغرب الأوسط التّسعير على التّجار خصوصًا إذا تجاوز هؤلاء حدودهم في البيع ، وكان الغلاء متفاحشًا(97) ، ويتحكّم في غلاء الأسعار أيضًا في غير أوقات المجاعة وظاهرة الاحتكار ، قانون العرض والطّلب ، فإذا كانت السّلعة نادرة الوجود تعمّد التّجار تخزينها حتّى يكثر الطّلب عليها وترتفع أثمانها في الأسواق (98) ،كما أنّ التّجار الذين يحتكرون الزّرع يستغلّون هذا الظّرف للزّيادة في أسعار القمح والشّعير ، أو يشترونه مباشرة من الدّور و الفنادق قبل نزوله إلى الأسواق قصد التّحكم في تسعيره (99) لذلك نهى الفقهاء عن هذا السّلوك ، ومنع الحنّاطين من شرائه في الدّور أوقات الغلاء ، لأنّه يدخل في باب المضرّة بالأسواق ، ومثلهم في ذلك مثل الطّحانين الذين يشترون القمح في الدّور ويطحنونه ويبيعونه دقيقًا للنّاس بسعر مرتفع ، لأنّهم يحتسبون في ذلك جهودهم في الطّحن . (100)
أمّا في الأوقات العادية فتشير إحدى الدّراسات إلى دور الدّلاّل في تحديد أسعار البضائع والسّلع لاتّصاله بأصحاب المهن والصّنائع من جهة ، ونظرته حول سعر المادة المعروضة في الأسواق خاصّة إذا تعلّق الأمر بمادتي الجلود ومختلف المواد المستعملة في الدّبغ (101) ، وفي بعض الحالات لا يقتصر تحديد الأسعار على المحتسب فقط ، بل يختار التّجار من له معرفة بأحوال السّوق ، وخبرة في تميّيز الجيّد من الرّديء فيحدّد لهم الأسعار ويلتزمون بها ، ولوكان ذلك مؤقتا . (102)
د ) التّجارة الخارجيّة للمغرب الأوسط
كان للاستقرار السّياسي الذي شهده المغرب الأوسط في العصر الزيّاني أثره في ازدهار وتنشيط حركة التّجارة به حيث شهدت أسواقه نشاطا متميّزا في البيع والشّراء ، وذلك بتشجيع كبار التّجار وصغارهم على المشاركة في إقامة وتفعّيل الأسواق الأسبوعيّة في البوادي والمدن . (103)
ويتحكّم في تنشيط وتفعيل هذه الأسواق ، فئات التّجار على اختلاف أصنافهم ورؤوس أموالهم ، ويمكن أن نميّز بين ثلاثة أصناف من التّجار : تجّار صغار يزاولون تجارتهم بمفردهم ، وأغلب هؤلاء يكونون إمّا مستأجرين للدّكاكين والمتاجر، أو متجولين بين الشّوارع والأزقة ، لاتزيد قيمة بضاعتهم عن مائتي دينار(104) وتجّار يتنقلون بين المدن وأسواقها، يشاركون التّجار الأجانب في البيع والشّراء ، ويوظفون مابين مائتي دينار وخمسمائة ، وتـجّار كبار يقومون برحلات نحو السّودان ودول أروبا ويحتكرون عددا من السّلع والبضائع (105) ، وتنفرد الفئة الثالثة عن غيرها بتنشيطها للتّجارة الخارجيّة ، إذ أصبحت مدن المغرب الأوسط مقصدا للقوافل والتّجار من مختلف الأقطار خاصّة القادمة من أروبا وغيرها من البلاد المسيحيّة (106) وقد لعبت الموانىء التّجارية دورا أساسيا في تفعيل المبادلات التّجارية عن طريق البحر الأبيض المتوسط .(107)
لقد كان التّجار المسيحيّون القادمون من أروبا يتمتعون بالأمن والحماية أثناء إقامتهم في موانئ المغرب الأوسط ، أو أثناء رحلاتهم البحرية متّجهين نحو هذه المناطق ، وزيادة على ذلك فقد كانوا أحرارًا في بيع سلعهم إمّا نقدا أو مقايضة على أن يلتزموا بواجبات مقابل هذه الضمانات منها الرقابة الدائمة على السلع والبضائع الواردة إلى أسواق المغرب الأوسط ، وعدم الإحتكار التجاري لسلعة معينة ، إلى جانب التقيد ببعض المحظورات المتعلقة بنوع البضائع المتبادلة ، ودفعهم للضرائب المفروضة على سلعهم للسلطة الحاكمة في تلمسان. (108)
وتذكر كتب الجغرافيا والرّحلات ، عددًا من الموانئ التّي قامت بدور فاعل في الحركة التّجارية ، ومن هذه الموانئ ميناء تنّس فهو من أكبر الموانئ التي يتعدى إليها الأندلسيّون بمراكبهم ويقصدونها بمتاجرهم (109)أمّا المرسى الكبير الذي لايبعد عن وهران سوى بضعة أميال ، فهو من أشهر موانئ المغرب الأوسط، ترسو فيه بسهولة مئات المراكب والسّفن المحمّلة بالبضائع والقادمة من أروبا (110) ، كما كان لميناء مستغانم رغم صغر حجمه ، دورًا هامًا في استقبال منتجات أروبا لتغطية الاحتياجات الاستهلاكية للسّكان ، رغم أنّ أصحاب السّفن لا يحققون أرباحًا مهمّة لشدّة فقر السّكان.(111)
وفي مقابل ذلك عرفت مدن المغرب الأوسط على غرار مدينة تلمسان حركة تجارية نشيطة مع بلاد السّودان (112) ، فبرزت في المجتمع التلمساني عدّة عائلات مارست النّشاط التّجاري ، واشتهرت بالغنى ويسر الحال أهمّها : عائلة المقري التّي اشتهرت بتجارتها الواسعة للذّهب ، وامتلاكها لعدد من الوكالات التّجارية في الواحات الصّحراوية (113) إلى جانب عائلة النجّار التي اشتهرت بحياكة الصّوف والتّجارة فيه مع مختلف البلدان مشرقًا ومغربًا ، إضافة إلى عائلة المرازقة والعقباني وغيرها من البيوتات التي جمعت بين العلم والتّجارة في آن واحد . (114)
لقد كان هؤلاء التّجار يزاولون التّجارة بأنفسهم ، أو بواسطة مواليهم وعبيدهم وفي بعض الحالات لجأ هؤلاء إلى استئجار وكلاء ينوبون عنهم في مختلف عملياتهم التّجارية ، سـواء في السّودان أوبلاد المشـرق أو دول أروبا ، ومن الوكلاء من كان يختصّ بتاجر واحد ، والبعض منهم بعدد من التّجار حيث يستقبلون سلعهم ، وينقلونها بعد ذلك إلى المدن الدّاخلية.(115)
لقد حرص هؤلاء التّجار على تأمين مدن المغرب الأوسط تجاريًا ، وتغطية احتياجات سكّانها من البضائع والمؤن ، فيصفهم مارمول بأنهم « أناس طيبون أوفياء في تجارتهم ، معتزّون بالنّظم والحضارة وحسن التّدبير ، مهذبون مع الأجانب ، وأهم تجارتهم في غينيا حيث يحملون بضائعهم كلّ سنة ويأتون منها بالتّبر والعنبر والمسك وسنور الزّباد ورقيق السّود وأشياء أخرى من بضائع البلد ، ويتجرون بالتّبادل محققين كثيرًا من الرّبح حتّى لا تكفي رحلتان أو ثلاث ليستغني التّاجر. » (116)
ويضيف حسن الوزّان قائلاً :
هم « أناس منصفون مخلصون جدّا وأمناء في تجارتهم ، يحرصون على أن تكون مدينتهم مزوّدة بالمؤن على أحسن وجه ، أهم أسفارهم التّجارية هو الذي يقومون به إلى بلاد السّودان ، وهم وافروا الغنى أملاكًا ونقودًا . » (117)
الخاتمة :
كنتائج نهائية لموضوع بحثنا المتواضع ، تتضح ملامح البنية الاقتصادية للدّولة الزيّانية ، من خلال الإمكانيات المتنوعة التي شكّلت دعائمًا قوية للقطاعات المنتجة ، والتي شملت الزراعة والصناعة وسائر الأنشطة التجارية الأخرى ، وكشفت هذه الإمكانيات عن حيوية الموقع ، و وفرة مصادر المياه ، وجودة التربة ، وتنوع المناخ ، و بعض النّظم المحكمـة المتعلقـة بكيفيـة إستغـلال الأرض الـزراعيـة وطريقة سقيها وفق ما تقتضية الشريعـة و ما تمليه عادات وتقاليد المجتمع التلمساني ، إلى جانب التّنظيم الجيّد لظاهرة الرعي وتربية الماشية كمصدرٍ من مصادرة الثّروة .
كما شهد القطاع الصناعي ازدهارًا كبيرًا ، بسبب الاهتمام المتزايد لسّلاطين الدّولة ، ووفـرة وتنـوع المواد الخّام ، وما اكتسبه الصنّاع من خبرات إضافية بفضل الهـجرة الأندّلسية إلى مدن المغرب ، حيث كان ذلك عاملاً مشجّعًا على وفرة الانتاج وتنوعّه ، وشكّل قاعدة جديدة لبداية ترويجه وتسويقه .
ونظرًا لخصّوصية الأوضاع السياسية والأمنية التي سادت بلاد المغرب ، فقد حرص سّلاطين الدولة من بني زيّان على توفير الأمن والاستقرار ، وتأمين طرق النقل والمواصلات والضرب على أيدي كلّ من تسّول له نفسه الاعتداء على الأمـوال والقوافـل ، من القبائل المعارضة للسّلطة وقطّاع الطرق ، فاستحدثوا تنظيمات جديدة ( الرتب ، الغرباء ) وفتحوا المجـال لإقامة علاقات تجاريـة متنوعة بيـن الشمال والجنوب وداخل مدن الدّولة .
وإلى جانب العناية الخاصّة بالتجارة الخارجيـة فقد توفرت للنّشاط التّجاري الأسـواق الداخليـة ، التي حضيت بعناية خاصّة من قبل السلطة الحاكمة في حاضرة الـدولة بيعًا وشـراءً ، وذلك بتنظيمها وحسن إدارتها ، من خلال توزيع الأسـواق حسب طبيعة نشاطـها ، وإقامـة الفنادق وتجديدها خدمةً للتّجار والغرباء ، مع تفعيـل دور المحتسب ، وتحديد نظـام التسعّير لوضع حدٍّ لكـلّ أشكال الغشّ والتّدليس ، والمضاربة في السّلع والأسعار.
الهوامش :
(1) العروي ، مجمل تاريخ المغرب ، المركز الثقافي العربي ، ط1 ، بيروت ، 1999 ، 2 / 211
(2) عبد الرحمن إبن خلدون (ت 808 هـ / 1406 م ) ، تاريخ إبن خلدون ، المسمى كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس خليل شحادة ، مراجعة سهيل زكار ، دار الفكر ، لبنان ، 2000 ، 6 / 103
(3) إبن خلدون ، كتاب العبر ، م.ن ، 6 / 59
(4) وفي هذا المجال يأتي ذكر عدد من القبائل ومشايخها من أمثال : قبيلة الحرث بن مالك ، وهم من العطّاف والديالم ، قبيلة زغبة ومنها قبائل بني عامر ، قبيلة ذوى منصور من المعقل ، قبيلة المنبات من ذوي منصور ، أمّا عن مشايخ القبائل نذكر منهم : عنتر بن طرّاد بن عيسى ، يوسف بن مهدي من مشايخ سوّيد ، داوود بن هلال بن عطّاف من مشايخ بني عامر . أنظر : إبن خلدون ، م.ن ، 6 / 61 -110
(5) إبن خلدون ، م.ن ، 6 / 64 -65
(6) مختار حساني ، تاريخ الدولة الزيانية ، ( الأحوال الإقتصادية والثقافية ) منشورات الحضارة ، الجزائر ، 2009 ، 2 / 21
(7) حساني ، م.ن ، ص. ن
(8) روبير برونشفيك ، تاريخ إفريقيا في العهد الحفصي من القرن 13 إلى نهاية القرن 15 م ، ترجمة حمادي الساحلي ، ط1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيرروت ، 1988 ، 2 / 189
(9) م.ن ، ص. ن
(10) الونشريسي أبو العباس (ت 914 هـ ، 1508 م)، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب ، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، 1981 ، 7 / 334
(11) الونشريسي ، م.ن ، 9 / 73
(12) الونشريسي ، م.ن ، ص.ن
(13) برونشفيك ، م.س ، 2 / 194
(14) الونشريسي ، م.س ، 6 / 133
(15) برونشفيك ، م.س ، 2 / 195
(16) حساني ، م.س ، 2 / 15
(17) الونشريسي ، م.س ، 7 / 301
(18) الونشريسي ، م.ن ، 7 / 34 ، برونشفيك ، م.س ، 2 / 194 -195
(19) الونشريسي ، م.ن ، 5 / 116
(20) الونشريسي ، م.ن ، 8 / 143
(21) الونشريسي ، م.ن ، 8 / 137
(22) أحمد ابن مغيث الطليطلي ( 459 هـ / 1067م ) ، المقنع في علم الشّروط ، تقديم وتحقيق فرانشيسكو خابيير أغيري شادابا، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية ، مدريد، 1994 /262 -265
(23) الونشريسي ، المعيار المعرب ، م.س ، 8 / 152 – 154
(24) القيرواني أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن أبو زيد (386 هـ / 994 م ) ، النوادر والزيادات على مافي المدونة من غيرها من الأمهات ، تحقيق محمد عبد العزيز الدباغ ، دار الغرب الإسلامي ، ط1 ، بيروت ، 1999 ، 7 / 387 – 397
(25) الونشريسي ، م.س ، 8 / 174
(26) إبن مغيث ، م.س / 273 – 275
(27) القيرواني ، م.س ، 7 / 297
(28) الوزان الحسن بن محمد ، وصف إفريقيا ، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر ، دار الغرب الإسلامي ، ط2 ، بيروت ، 1983 ، 2 / 20
(29) إبن حوقل أبو القاسم محمد النصيبي (ق 4 هـ / 10 م ) صورة الأرض ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت ، 1992 / 78
(30) الونشريسي ، م.س ، 5 / 12 -13 – 20- 111
(31) القلقشندي أبو العباس (ت 821 هـ / 1418 م ) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء ، دار الكتب المصرية ، القاهرة ، 1922 ، 5 / 150
(32) الونشريسي ، م.س ، 5 / 111
(33) إبن حوقل ، م.س / 79- 88
(34) الونشريسي ، م.س ، 8 / 137 ، إبن مغيث ، م.س / 262 – 275
(35) الونشريسي ، م.س ، 5 / 12 -13 – 20- 111 ، عبد الحميد حاجيات ، أبو حمو موسى الزياني – حياته وآثاره ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، الجزائر ، 1982 / 62
(36) العبدري أبو عبد الله محمد بن محمد (ق 7 هـ / 13 م ) ، رحلة العبدري المسمّاة الرحلة المغربية ، تحقيق وتقديم وتعليق محمد الفاسي ، الرباط ، 1968 / 16
(37) الإدريسي أبو عبد الله محمد بن محمد (ت 558 هـ / 1162م ) ، نزهة المشتاق في إختراق الأفاق ،مكتبة الثقافة الدينية ، مصر ، د.ت ، 1 / 250 – 255
(38) الإدريسي ، م.ن ، 1 / 250 – 255
(39) الوزان ، م.س ، 2 / 20
(40) أبو زكرياء يحي بن محمد إبن خلدون (ت 780 هـ/ 1378 م ) ، بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد ، تحقيق ألفريد بال ، الغوثي أبو علي ، مطبعة فونطانة ، الجزائر ، 1903 ، 1 / 10
(41) الوزان ، م.س ، 2 / 30- 46
(42) القلقشندي ، م.س ، 5 / 111
(43) إبن حوقل ، م.س / 78
(44) الإدريسي ، م.س ، 1 / 252 – 253
(45) بوزياني ، م.س / 211 -212
(46) الوزان ، م.س ، 2 / 24- 37
(47) الوزان ، م.ن ، 2 / 33- 44
(48) الوزان ، م.ن ، 2 / 33
(49) الونشريسي ، م.س ، 8 / 145- 146
(50) الوزان ، م.س ، 2 / 13
(51) حساني ، م.س ، 2 / 32
(52) إبن خلدون عبد الرحمن ، م.س ، 6 / 116
(53) بوزياني ، م.س / 21
(54) حساني ، م.س ، 2 / 39 – 40
(55) إبن حوقل ، م.س / 78 – 86
(56) الوزان ، م.س ، 2 / 26- 29
(57) جورج مارسي ، تلمسان ، ترجمة سعيد دحماني ، دار التل للنشر ، الجزائر ، 2004 / 100 -101 ، الوزان ، م.س ، 2 / 14- 34
(58) يحي إبن خلدون ، م.س ، 1 / 22
(59) الزهري أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ق 6 هـ / 12 م ) كتاب الجغرافيا ، تحقيق محمد حاج صادق ، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة ، د.ت / 113- 114
(60) إبن مرزوق أبو عبد الله محمد التلمساني الخطيب ( ت 781 هـ / 1379 م ) ، المناقب المرزوقية ، دراسة وتحقيق سلوىالزاهري ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، مطبعة النجاح الجديدة ، ط1 ، الدار البيضاء ، 2008 / 148 – 189
(61) مارسي ، م.س / 101
(62) إبن مريم أبو عبد الله محمد بن أحمد ( كان حيا سنة 1014 هـ / 1605 م ) ، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان ، إعتنى بمراجعته محمد بن أبي شنب ، المطبعة الثعالبية ، 1908 / 38 – 39
(63) مارسي ، م.س ، ص .ن
(64) برونشفيك ، م.س ، 2 / 242 -243
(65) جمال أحمد طه ، مدينة فاس في عصري المرابطين والموحدين (دراسة سياسية وحضارية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ،د.ت / 215
(66) حساني ، م.س ، 2 / 98
(67) الوزان ، م.س ، 2 / 15
(68) مارسي ، م.س / 55
(69) البكري أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز (ت 487 هـ / 1094 م ) ، المغرب في ذكر إفريقية وبلاد المغرب ، دار الكتاب الإسلامي ، القاهرة ، د.ت / 70 (70) محمد عيسى الحريري ، تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس في العصر المريني ، دار القلم للنشر والتوزيع ، ط2 ، الكويت ، 1987 / 286
(71) حساني ، م.س ، 2 / 98
(72) بوزياني ، م.س / 227 – 236
(73) أحمد مختار العبادي ، من مظاهر الحياة الإقتصادية في المدينة الإسلامية ، مجلة عالم الفكر ، العدد 01 / المجلد الحادي عشر ، الكويت، 1980 / 157
(74) الوزان ، م.س ، 2 / 26 -27 ، حساني ، م.س ، 2 / 45
(75) الونشريسي ، م.س ، 3 / 157- 217 ، 10 / 242- 409 ، 11 / 125
(76) Dufourc Charles Emmanuel ‚ L` Espagne catalane et le Maghreb aux XIII et XIV‚ Paris‚ 1966 / 13
(77) فيلالي عبد العزيز ، تلمسان في العهد الزياني ( دراسة سياسية ، عمرانية ، إجتماعية ، ثقافية ) ، فوم للنشر والتوزيع ، الجزائر ، 2002 ، 1 / 215- 216
(78) حساني ، م.ن ، 2 / 42 – 43
(79) مارمول كربخال (ق 10 هـ / 16م ) ، إفريقيا ، تحقيق محمد حجي وآخرون ، مطبعة المعارف ، الرباط ، 1948 ، 2 / 149- 152
(80) الونشريسي ، م.ن ، 5 / 197
(81) الونشريسي ، م.ن ، 5 / 90 ، 8 / 144
(82) الونشريسي ، م.ن ، 11 / 144 ، 8 / 144
(83) برونشفيك ، م.س ، 2 / 195
(84) الونشريسي ، م.س ، 6 / 409 – 416
(85) العقباني محمد بن أحمد بن قاسم التلمساني (ت 871 هـ / 1467م ) تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر و تغيير المناكر، تحقيق ونشر علي الشنوفي ، مجلة الدراسات الشرقية ، المعهد الفرنسي داماس ، العدد 19 ، 1967 ، / 114
(86) العقباني ، م.ن / 118
(87) بروفنسال ليفي ، ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة والمحتسب ، مطبعة المعهد العلمي لآثار الشرقية ، القاهرة ، 1955 /20
(88) العقباني ، م.س ، ص.ن
(89) الوزان ، م.س ، 2 / 27 ، حساني ، م.س ، 2 / 49
(90) المجيلدي أبو العباس أحمد بن سعيد (ت 1094 هـ / 1346 م ) ، التسيير في أحكام التسعيير ، تحقيق موسى لقبال ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط 1 ، الجزائر ، 1981 / 48 – 53 ، العقباني محمد بن أحمد بن قاسم ، م.س / 131 – 134
(91) المجيلدي ، م.ن ، ص.ن ،
(92) العقباني ، م.س / 135
(93) التنسي محمد بن عبد الله بن عبد الجليل (ت 899 هـ / 1493 م ) ، نظم الدر والعقيان في بيان شرف بني زيان ، تحقيق وتعليق ، محمود بوعياد ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، 1985 / 130- 132 ، إبن مرزوق ، م.س / 194
(94) إبن خلدون ، م.س ، 7 / 128
(95) الوزان ، م.س ، 2 / 18
(96) العقباني ، م.س / 127-131
(97) العقباني ، م.ن / 135
(98) حساني ، م.س ، 2 / 60
(99) العقباني ، م.س / 128
(100) العقباني ، م .ن / 129
(101) الونشريسي ، م.س ، 9 / 120- 122 ، 5 / 220
(102) حساني ، م.س ، 2 / 65
(103) فيلالي ، م.س ، 1 / 215- 216
(104) حساني ، م.س ، 2 / 41
(105) حساني ، م.ن، ص.ن
(106) الوزان ، م.س ، 2 / 30
Dufourc Charles Emmanuel ‚ L` Espagne catalane et le Maghreb aux XIII et XIV‚ Paris‚ 1966 / 134- -139
(107) رشيد بورويبة وآخرون ، الجزائر في التاريخ ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر ، 1984 ، 3 / 479 – 480
(108) بورويبة وآخرون ، م.ن / 479 – 485
(109) إبن حوقل ، م.س / 78
(110) الوزان ، م.س ، 2 / 30
(111) الوزان ، م.ن ، 2 / 32
(112) الوزان ، م.ن ، 2 / 21 ، فيلالي ، م.س ، 1 / 213- 219
(113) المقري شهاب الدين أحمد بن محمد (ت 1041 هـ / 1631 م ) ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، تحقيق إحسان عباس ، دار صادر ، بيروت ، 1988 ، 5 / 205- 206
(114) إبن مرزوق ، م.س / 148 – 189
(115) حساني ، م.س ، 2 / 42 – 43
(116) كربخال ، م.س ، 2 / 300
(117) الوزان ، م.ن ، 2 / 21
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق